قبل ثلاثين عاما وفي مثل هذه الأيام، كان كاتب هذه السطور يعمل في الإذاعة الفلسطينية التي تعرضت -أكثر من أي مؤسسة فلسطينية أخرى- لمطاردة متواصلة من قبل الطائرات الإسرائيلية التي نجحت في إخراجها من مقرها "الرسمي" إلى مقرات سرية ومتنقلة، لكنها لم تنجح قط في إخراسها. كان هناك أيضاً عدد كبير من المثقفين الفلسطينيين واللبنانيين والعرب الذين انضموا سريعاً إلى الإذاعة وشكلوا فريق عمل لم يجتمع -على ذلك النحو- من قبل، ولم يحدث ذلك من بعد.
بدأ الاجتياح الإسرائيلي للبنان بعد محاولة اغتيال فاشلة لسفيرها في لندن شلومو أرغوف يوم الثالث من يونيو/حزيران عام 1982. حدثٌ مثل ذلك الحدث كان شائعاً وقتها. كان ممثلو إسرائيل في الخارج هدفاً مشروعاً لدى بعض القوى الفلسطينية، وكانت إسرائيل ترد -كعادتها- الصاع صاعين، ولكن أبداً ليس كما فعلت بدءاً من اليوم التالي لإطلاق النار على أرغوف الذي تبنته جماعة "أبو نضال".
رغم كل الدلائل التي توفَّرت لقيادات منظمة التحرير الفلسطينية وحلفائهم اللبنانيين -قبل نحو عام أو أكثر- عن اعتزام إسرائيل شنَّ هجوم حاسم على الأراضي اللبنانية فإن الهجوم الإسرائيلي -على النحو الذي اتخذه- فاجأ الجميع تقريباً. لم يكن أحدٌ يتصوَّر أنَّ ذلك الحادث -الذي وقعت أحداث مثله من قبل- سيترتب عليه اجتياح للبنان وحصار طويل لبيروت، أديا إلى خروج الفصائل الفلسطينية منها. كانت خطَّة الاجتياح الكبير معدَّة سلفاً، ولم تكن محاولة اغتيال "أرغوف" سوى ذريعة وضعت تلك الخطّة موضع التنفيذ.
ولكن هذا ما سنعرفه لاحقاً.
تضاربت الأنباء القادمة من إسرائيل عن أهداف الاجتياح الذي حمل اسم "سلامة الجليل". فهناك من قال إنه يرمي إلى دفع الفصائل الفلسطينية إلى ما وراء "نهر الزهراني" بغية تأمين مستوطنات الجليل من الصواريخ الفلسطينية، وثمة من رأى أنه قد يصل إلى بيروت.
على نحو كاسحٍ، سريعٍ، وضارٍ، وبكميات نار غير مسبوقة، بدأ اجتياح لبنان. سيمتدُّ مسرح رقصة الدم والنار من "رأس الناقورة" في الجنوب إلى "المدينة الرياضية" في بيروت الغربية.
ضربات متواصلة تتجاوز الانتقام.
ضراوة وكثافة نيران ترميان إلى الإفناء أو التركيع أكثر من أيّ شيء آخر.
هستيريا من الانفجارات.
عنفٌ ملحميٌّ في قلب مناطق مأهولة بالسكان.
لن يعرف أحدٌ كيف تضيق الأرض وتتحول السماء إلى صفيحٍ ملتهبٍ يلامسُ الرؤوس، ولن يدرك معنى أن تصبح الحياة مجرد مصادفةٍ سعيدةٍ إلاّ الذين كانوا هناك: في بيروتَ صغيرةٍ بحجم راحة اليد.
في منتصف شهر يونيو/حزيران عام 1982 كنا قد تجرَّعنا هول الصدمة الأولى لزحف أرييل شارون الذي أحكم الطوق على بيروت من كل جانب، وجعلنا سياج النار نصدِّق ما كان يتعالى على التصديق حتى ذلك الوقت: الحصار الإسرائيلي لعاصمة عربية!
كثيرون لم يصدقوا -في خضّم الاندفاعة الأولى للاجتياح- أن قوات "يوشع بن نون" الجديد ستحكم الحصار على "أريحا الجديدة"، وستعصف بها من كلِّ صوبٍ أمام ذهول العالم وصمت الأقربين والأبعدين. لقد نُسِيَت "خطّة الأكورديون" التي تحدَّث عنها "أبو عمار" في مطلع ذلك العام، ولن يتم تذكّرها إلا بعد الوصول الفنتازي لشارون إلى مكتب الرئيس اللبناني إلياس سركيس!
كان هذا هو العنوان الرهيب لذلك الصباح الحزيراني. عنوان بالصورة الفاضحة والمعاني الذليلة: أرييل شارون في "قصر بعبدا"!
بعد ذلك كان علينا أن نصدّق كل شيء: حقيقة الحصار، ضراوته، أهدافه، من خلال أنفاس الوحش الذي وصل إلى الجانب الشرقي من بيروت ومرابطته هناك. انتقلت غرفة عمليات شارون من تل أبيب إلى بيروت الشرقية. إنَّه قريب، وهذه أنفاس التنّين المحرقة تصل إلى "شارع الحمرا" و"البربير" و"كورنيش المزرعة" و"فردان" و"المنارة" و"الطريق الجديدة" و"الرملة البيضا" و"الغبيري"، و"رأس بيروت" و"الحمام العسكري" و"محلة قصص" و"نزلة كاراكاس" و"الشيّاح" و"الزيتونة" و"رأس النبع" و"بربور" و"كلية العلوم" و"الأوزاعي" و"الليلكي" و"حي السلّم".
الحصار -بكل محموله من المعاني والدلالات- بات حقيقةً كثيفةً ذات قوام متخثّر، كلما حاولنا تجاهلها، جاءت الطائرات لتذكّرنا بها فرداً فرداً. الترويض يبدأ بالنفس. حسم فكرة واقعية الحصار عقلياً لا يعني توقف القلب عن الخفقان كلما كادت الطائرات أن تمسَّ أكتافنا، وكلما هدرت ضباع البحر (البوارج) وأرسلت عواءها الكريه صوب بيوت ودَّعت صباحات القهوة ورائحة الغسيل الطازج على حبال الشرفات.
بيروت الصغيرة -بما لها من طاقات تحوّلٍ سحرية- شرعت في وضع خطة الدفاع عن نفسها. لم يعد ثمة مجال للشك في وجود الوحش الذي أحرقت أنفاسه اللهبية أطرافها ووصلت إلى العصب. من لم يصدِّق عليه الآن أن يصدِّق. سواتر الرمل ارتفعت، حقول الألغام بُثَّت في المداخل الرئيسية للشطر الغربي، الأفران رفعت درجة حرارتها وأنضجت المزيد من الأرغفة.. حفارات شوهدت هنا وهناك تدقُّ الأرض الرملية بحثاً عن مياه قريبة...، مولدات كهربائية صغيرة انتشرت في الأحياء.
كان أناس بيروت -التي بكَّرت في استدعاء نظائر لحظتها في التاريخ: طروادة، لينينغراد- يتصرفون بمزيجٍ محكمٍ من التوتّر الذي يولّده الخوف والمصير الغامض، والزهو المتجلي من حالة المقاومة الفريدة. لقد وضع الجميع تقريباً "تجاوزات" الفصائل وسوء تصرف جماعاتها حيال المواطنين اللبنانيين جانباً، وانبروا للدفاع -كلٌّ من موقعه وبقدر ما يستطيع- عن تلك المدينة الاستثنائية في تاريخ المدن العربية في وجه عدوان لم يفرِّق بين المدني والمقاتل. فقد كان العقاب الإسرائيلي موجَّها -في العمق- لبيروت واقعاً ورمزاً، مدينةً وحالةً.
المثقفون الذين طالما أوسعوا "الثورة الفلسطينية" و"الحركة الوطنية اللبنانية" نقدا عالي الصوت من مقاهي "الفاكهاني" و"الحمرا"، اندفعوا إلى العمل معهما في أيام الحصار الأولى على الأقل. الذين لم يعرفوا طريقاً إلى الإذاعة الفلسطينية طوال الأعوام الماضية جاؤوا عارضين سلاحهم الثمين: الكلمة، والذين لم يكتبوا في صحيفة "فلسطين الثورة" سابقاً انضموا إلى أسرتها الصغيرة في مقرّها الجديد في بناية "الحمرا سنتر"، بعد قصف مقرّها التقليدي في "شارع الطيبي". كذلك فعل مثقفون فلسطينيون ولبنانيون وعرب حيال "النداء" و"الهدف" و"العودة" و"صوت لبنان" و"صوت الشغيلة" و"الرصيف" و"بلسم".
أما صحيفة "السفير" -التي شكلت جبهة معنوية فاعلة- فقد حافظت على طاقمها التحريري في بداية الاجتياح، ولكنها عانت -مثل سائر المؤسسات الصحفية- من اختفاء تدريجي للمحررين، خصوصاً مع اشتداد عنف الحملة الإسرائيلية على بيروت التي بدا أنْ لا رادَّ لها. ولم يختلف وضع صحيفة "النهار" التي صمدت -بترنّحٍ متوقَّعٍ- في لحظة بدا لنا أنها ليست لحظتها.
في هذا الفضاء المشبع بقعقعة السلاح ودخان الحرائق، تأسست صحيفة "المعركة" التي استقطبت كتاباً وفنانين وصحفيين لبنانيين وفلسطينيين وعرباً، وأصبحت صحيفة المقاتل والمثقف على السواء، فهي: صحيفة التحليل للحدث بشقيه السياسي والعسكري، التحقيق الميداني في المواقع المتقدمة، القصائد المقاومة، والزاعقة أحياناً، التي تمثَّلت إيلوار وأراغون وبابلو نيرودا وناظم حكمت، الكاريكاتور الساخر (برهبةٍ تكتمها الخطوط)، الوجدانيات المحرّضة على الدفاع عن الحياة المهددة بموتٍ عاجلٍ، عن الجمال في الزهرة وعناق عاشقين على شاطئ بحرٍ آمن.
لكن الإذاعة الفلسطينية -التي كنت التحقت بها قبل شهرين مشرفاً على برنامجها الثقافي- هي التي ستكون الأكثر تعرضاً للقصف الإسرائيلي، والأكثر استقطاباً للكتّاب والصحفيين الفلسطينيين والعرب المقيمين في بيروت، وهي التي وجدت نفسي في قلب ورشتها الإعلامية والإنسانية الفريدة من نوعها، في لحظة فريدة من نوعها في حياتي الشخصية والمهنية.. والنضالية. لحظة اعتقدت -في خضمِّها- أنْ لا لحظة بعدها، أنْ لا زمن سيأتي، وإن جاء فلن أكون من عائشيه.
في صيف عام 1982، كانت بيروت قمراً صغيراً بين فكيْ قرشٍ هائلٍ..، تلك البيروت التي بدا لنا حينها أنها حرَّرت البندقية من يد وزارات الدفاع الغائبة عن الوعي، والكتاب من يد الرقابة الغاشمة، والصحيفة من مطابع الكلس، والإنسان من قلاع الخوف. بيروت هذه كانت تويجاً عارياً، مرتعشاً، أمام شفرة فولاذ تهوي على الجميع تقريباً بلا تمييز.
المصدر: الجزيرة نت