بما أن النظام في سوريا كان لعقود مجرد ذيل من ذيول الاتحاد السوفياتي سابقاً، فقد كانت تركيبة سوريا الاجتماعية شبيهة بتركيبة الدول الشيوعية التي عاشت على القهر والإخضاع لعشرات السنين. وعلى الرغم من أن سوريا وشبيهاتها الشيوعية كانت تتغنى دائماً بالوحدة الوطنية والتعايش الاجتماعي والشعبي ليل نهار، إلا أن تكرار شعارات الوحدة الوطنية التي كانت تملأ وسائل الإعلام السورية وجدران الأبنية في طول سوريا وعرضها لم يكن أبداً دليلاً على وجود الوحدة الوطنية، بل كانت محاولة مفضوحة لفرض الوحدة الوطنية الكاذبة على السوريين بالحديد والنار والإرهاب الإعلامي اليومي.
وفي أحسن الأحول كانت محاولة للتغطية على عدم وجود الوحدة على أرض الواقع، لأن "بتوع" الوحدة الوطنية يرفعونها شعاراً، ويدمرونها على الأرض. فكما هو معروف في الديكتاتوريات، كلما زاد عدد صور الديكتاتور في الشوارع، فاعلم أن الديكتاتور مكروه وليس محبوباً من الشعب، فالحاكم المحبوب ليس بحاجة لأن يفرض صوره على الناس ليل نهار حتى في دورات المياه والمراحيض العامة كما كان الوضع ومازال في سوريا.
وبما أن الوحدة الوطنية لا تُفرض بالحديد والنار، بل بالعدالة والمواطنة والشراكة الحقيقية في الوطن، فقد انهارت كل الدول التي رفعت شعارات الوحدة الوطنية الكاذبة، والتي اكتفت بممارستها في وسائل الإعلام وأهملتها على أرض الواقع. لاحظوا كيف انهار الاتحاد السوفياتي نفسه الذي كان الأب الروحي لكل الديكتاتوريات في أوروبا الشرقية والعالم.
لم يستطع السوفيات ان يوحدوا الشعوب التي حكموها رغم جبروتهم وامتلاكم لواحدة من أكبر الترسانات النووية في التاريخ، لأن نظامهم كان نظاماً ديكتاتورياً لا يؤمن بخيارات الشعوب ولا بحريتها ولا كرامتها، بل كان يعاملها كقطعان تسوقها أجهزة الأمن بالسياط. ولاحظوا أيضاً كيف انهارت يوغسلافيا السابقة بعد موت طاغيتها السابق جوزيف بروس تيتو، وتفتتت إلى دويلات بعد أن تقاتلت شعوبها لسنوات، وذبحت من بعضها البعض مئات الألوف من البشر.
لقد عاشت شعوب يوغسلافيا موحدة تحت القبضة الحديدية في العهد الشيوعي بقيادة تيتو، لكن التعايش الزائف كان مفروضاً بقوة الحديد والنار، وعندما ارتخت القبضة الأمنية انهارت الوحدة المفروضة زوراً وبهتاناً. وقد اكتشفنا كيف كان اليوغسلافيون يعادون بعضهم البعض إلى حد أنهم مارسوا بحق بعضهم البعض مجازر يشيب لها الولدان. كلنا يتذكر مجازر البوسنة والهرسك وكرواتيا وصربيا والجبل الأسود وغيره فيما كان يسمى بيوغسلافيا.
واليوم نجد الأمر ذاته يتكرر في سوريا الأسد، حيث حاول النظام أن يفرض وحدة وطنية زائفة بقوة الكلاب الأمنية، مع أنه كان في الوقت نفسه يحاول تفخيخ المجتمع السوري طائفياً ومذهبياً واجتماعياً بسياساته الظالمة والخبيثة كي يعيش على تشرذمه.
ولعل أكبر دليل على أن الوحدة الوطنية كانت كذبة كبيرة في سوريا أن السوريين يذبحون بعضهم البعض الآن على الهوية الطائفية، لا بل إنهم يتلذذون بدعس بعضهم البعض، فعندما يقضي جيش النظام على بعض قوات المعارضة ترقص صفحات الشبيحة طرباً وتهلل للعملية بعبارتها الشهيرة: "تم الدعس"، والعكس صحيح بالنسبة لقوات المعارضة، مع العلم أن المتحاربين ليسوا أعداء، بل من المفترض أنهم أشقاء سوريون. لكنهم أشقاء مزيفون، فالأنظمة الديكتاتورية لا تصنع مواطنين أشقاء، بل تصنع أخوة أعداء مستعدين أن يبيدوا بعضهم البعض عند أول صراع، كما نرى الآن في سوريا.
كم نشعر بالقرف ونحن نرى تاجراً دمشقياً وهو يفتتح أكبر مطعم أو أكبر محل لبيع البوظة، بينما يعاني مئات الألوف من الجوع، ويلجؤون إلى أكل أوراق الأشجار في الغوطتين الشرقية والغربية على بعد بضعة كيلومترات فقط من محله في العاصمة دمشق. الدمشقيون يدخنون الشيشة ويرقصون في مراقص دمشق القديمة، بينما يموت الألوف من "إخوانهم" تحت القصف والجوع على مرمى حجر في داريا وعربين. كما يرقص بعض الحلبيين في الملاهي في الوقت الذي تقصف فيه الطائرات الروسية الأحياء الشرقية من حلب بالنابالم.
ما أحقر الذين يرقصون ويهللون ويطلقون الرصاص في شوارع الساحل السوري ومناطق الأقليات الأخرى احتفالاً بالقصف الروسي بالنابالم والأسلحة المحرمة دولياً لسكان حلب وإدلب وحمص ودير الزور وغيرها.
كيف سيتعايش هؤلاء الأوغاد مع السوريين الآخرين الذين تشردوا بالملايين، وفقدوا فلذات أكبادهم وأرزاقهم بالملايين أيضاً لاحقاً؟ أهذه هي اللُحمة الوطنية التي كان يضحك بها علينا إعلام الأسد، أم هي اللحمة الوطنية المشوية التي يرقص حولها السوريون طرباً كلما ذبحوا بعضهم بعضاً؟ من أكبر الأكاذيب التي انطلت على السوريين أن "الشعب السوري واحد". لقد أراده النظام الفاسد أن يكون طوائف وقبائل ومللاً ونحلاً متناحرة كي يعيش على تناقضاته، وكي يضربه ببعضه البعض عندما يثور عليه، فيلتهي بصراعاته وينساه. ويبدو أنه نجح.
د. فيصل القاسم: أورينت نت
↧