في برلين ..
كل الشكر لمنظمة "العمل للأمل" العاملة في المناطق المهمشة والمخيمات في لبنان والأردن وجهود السيدة "بسمة الحسيني" والفريق المنسجم، ومؤسسة "اتجاهات" لدعم الثقافة المستقلة وجهود "عبد الله الكفري" والفريق المنسجم، على تعاونهما المثمر في إنجاز فعالية ثقافية فنية مكونة من نشاطات ومشاريع إبداعية مميزة من شباب سوريا في الشتات، لمدة ثلاثة أيام..
شكرا لاستضافتي ودعوتي لإلقاء كلمة الافتتاح ..
نص الكلمة بحضور السيد "ستيفان شناينلاين" وكيل الخارجية الألمانية :
السيدات والسادة الحضور: في افتتاح فضاء لفعالية ثقافية فنية في تجمع سوري نادر، أتمنى ألا يبقى نادراً، نتذكر هنا الكتاب والفنانين السوريين المعتقلين من بين عشرات الألوف من السوريين، كتاب وفنانون قضوا في المعتقلات تحت التعذيب مثل الكتاب إبراهيم الخريط، ورشيد الرويني، ونمر المدني وغيرهم، والفنانين أكرم رسلان وفادي مراد ووائل قسطون والممثل الفلسطيني حسان حسان والمغني الشعبي عبد الرحمن رستم والمخرج مأمون نوفل، وعبد الوهاب الملا، وغيرهم، ونتذكر المعتقلين منهم أيضاً مثل عدنان زراعي وزكي كورديلو ومهيار وسمر كوكش وغيرهم..
لن تنتصر ثقافة الشر..
يحتاج أي صراع إلى استخدام أو صناعة خطاب فكري قادر على تجنيد البشر لأجل الإقتتال.
كان الصراع الدولي السابق بين القطبين، يتمثل في هيمنتهما وتقاسمهما لمناطق وجود الثروات الاستراتيجية الخام في العالم، وما كان لهذا الصراع أن يتم، لولا شحنه بتيارات فكرية عقائدية إقصائية يجنٌد فيها مئات الملايين من البشر يعملون لها ولحربها.
وعليه فقد اختُزل الصراع من وجهة نظر أميركا إلى صراع ضد "الخطر الشيوعي" الذي كان تهمة أمريكية جاهزة ضد أي قوة لا تروق لها، بما فيها حركات التحرر الوطني. وبالمقابل كان النضال ضد الإمبريالية هو الغلاف الفكري والسياسي لتدخل السوفييت في أي مكان.
بعد حسم الصراع واضمحلال الذريعة الفكرية له عقب تفكك "المنظومة الاشتراكية"، باتت القوى الإقتصادية ذات السيطرة بحاجة إلى لبوس فكري جديد للحفاظ على السيطرة، وفي السياق يجري دائماً إضعاف المؤسسات الدولية الحاملة للقيم الإنسانية النبيلة.
اليوم يجري تغليف الصراعات التي تفجرت بعد انهيار التوازن العالمي السابق، بذريعة فكرية وأخلاقية جديدة هي الحرب ضد الإرهاب.
هذه الهاوية السحيقة جاهزة لابتلاع دول بكاملها (كما جرى في العراق)، وليس فقط حركات تحرر اجتماعي وسياسي، مثلما يجري اليوم في سوريا.
في سوريا تجري الآن حرب مفتعلة جاءت عقب ثورة السوريين 2011، حين اعتقدوا أن النظام الدولي قد حجب رعايته التاريخية عن الأنظمة المستبدة في الشرق الأوسط، فخرجوا ليطالبوا بحقهم بالحرية وبالقيم الإنسانية النبيلة، لكنهم للأسف لم يحتسبوا جيداً من الألغام الفكرية الفتاكة المعدة مسبقاً مما تنتجه ثقافة الشر، فوجدوا أنفسهم يطالبون بمجرد حقهم في الحياة.
كشفت الثورة في سوريا أن المناطق المهمشة من المعرفة والعلم والعمل هي المناطق التي تحوي ثروات استراتيجية أو طاقات بشرية كبيرة، وقد تعرضت مجتمعات هذه المناطق وعلى مدى عقود لسلسلة ممنهجة من التسطيح والتجهيل والتعتيم، حرمت من حق التعليم والمعرفة، من حق النمو من ثرواتها الطبيعية، من كفاءة ومواهب أبنائها، ومن أي نشاط مؤثر كان فنياً أو ثقافياً.
لم يكن هذا عبثاً أو من قبيل الصدفة، ثقافة الشر تعي تماماً أن التجهيل سيثمر لها سموماً تفتك بأصحابها.
مقابل هذا التهميش المعرفي والثقافي، يسعى الاستبداد إلى تشكيل أنواع مختلفة من المثقفين والفنانين الموالين له، عبر عقد صفقات معهم، أشبه بصفقة فاوست و ميفيستوفيليس، هم يسخّرون إنتاجاتهم وإبداعاتهم الفكرية لتثبيت ركائزه وسياساته لضمان تأييد الناس له وقبولهم به، وهو يمنحهم امتيازات خاصة تجعلهم متورطين في الفساد، وفي قبضة العدالة حين يتطلب الأمر.
من مفارقات الإستبداد ومثقفيه في العالم العربي، أنهم اخترعوا احتفالية ثقافية ضخمة، تكون دورية بين عواصمهم، أطلقوا عليها عواصم الثقافة العربية مدة سنة كاملة، بينما زنازين هذه العواصم تغص بالمعتقلين من كل التيارات السياسية والفكرية.
الجدير بالذكر أن هذا الأمر، لم يمنع المثقفين والفنانين السوريين والعرب والأوروبيين من المشاركة في هذه الإحتفالات المشبوهة، وسواء كانت مشاركتهم عن قسر، أو جهل، أو انتهازية، فهي تنم عن استسلام مذل لواقع الاستبداد، وفي هذا خسارة للثقافة والفنون، خسارة للإنسان، للقيم النبيلة، للأخلاق، للتنوير.
في الثورة السورية تجلت هذه الخسائر بصورة مريعة، عندما آثر هؤلاء الصمت والتزموا الحياد تجاه مآسي المجتمع ومعاناته المريرة، وساهموا في نشر روح الخوف والخنوع طلباً للسلامة، ومنهم من قدم، طوعاً أو كرهاً، بعض أشكال الدعم والمساندة للحكام واكتفى من الغنيمة بالإياب.
وكان أكثرهم سوءاً، من اندمج في عالم السلطة ومغانمها وصارت مهمته الرئيسة تبرير سياسات الحاكم وتسويغ ممارساته الاستبدادية والدفاع عن بطشه وظلمه، ليضمحل أو يغيب دور المثقف النقدي..
هنا يبرز السؤال، عن دور الأفراد من مثقفين وفنانين، هل يضمحل دورهم أمام جبروت القوة وسيادة الشر كما نرى اليوم في سوريا مثالاً لا حصراً؟
في سوريا تكشرت أنياب الشر على ثورة شعبية سلمية عارمة، جهد المستبد في دفعها للعسكرة لتبرير مجازر قادمة، ولاحقت أجهزته الأمنية، كل من انخرط في الثورة من كتاب وفنانين وطلاب مدارس وجامعات ومهندسين وأطباء وعمال ومزارعين وتجار، ذكوراً وإناثاً، ولما ظهر عجزه عن إخماد الثورة، تدخلت القوى الخارجية لمنع أي تشكيل فكري سوري جاد حي ومنتج يمكن أن يقود إلى التغيير المنشود، واستدعى هذا، بطبيعة الحال، صناعة وإقحام قوى فكرية إرهابية نسبت نفسها للثورة لأسلمتها وطمس مبادئها، وليست مصادفة أن يتركز الإهتمام الرسمي الدولي على كل التيارات الفكرية المتطرفة العنصرية والطائفية ويدعم بعضها في اقتتال دائم، وكأنها محاولة لإخراج نظام الأسد من دائرة الإرهاب واعتباره صراحة أو ضمناً، في معسكر محاربة الإرهاب.
ومع هذا لن تنتصر ثقافة الشر، ما دام الفنانون والكتاب والمفكرون والإعلاميون والحقوقيون والعلميون يقفون ضد أي انتهاك لحريات حقوق الإنسان والقيم الإنسانية النبيلة، وما دامت أعمالهم كلها تصب في صياغة الوعي الإنساني العام، في حرب بلا هوادة على التضليل الذي يحوّل الناس إلى وقود حروب ضد مصالحهم دائماً.
وكما يقول "إدوارد سعيد" في كتابه “المثقف والسلطة”: إن “من المهام المنوطة بالمثقف أو المفكر أن يحاول تحطيم قوالب الأنماط الثابتة، والتعميمات (الإختزالية) التي تفرض قيودًا على الفكر الإنساني وعلى التواصل ما بين البشر”.
كثير من المثقفين يستسلمون لتعميمات بسيطة وسهلة بفعل كسل فكري أو بضغط من "مشاعر سياسية" وبذلك يعززون القيود على الفكر الإنساني بدلاً من تحريره.
كثير من المثقفين اليوم يعززون العدائية بين البشر بدلاً من تعزيز التواصل. حين ينزلق المثقف إلى مستوى احتقار وشتم قطاعات واسعة من الناس قادها وعيها لاصطفاف طائفي معين، دون البحث في مرتكزات وعي وقناعات هذه القطاعات، فإنه يتحوّل إلى مثقف استبداد حتى لو كان يتكلم باسم ثورة.
أن تكون مثقفاً يعني أن تكون في قلب المجتمع، وفي تماس دائم مع خطوطه الساخنة وتوتراته وجوانبه المرشحة للتغير.
يجب أن نقول هنا إنه من الطبيعي أن لا يكون للنخبة الثقافية أو الفنية وعي موحد، ومن المفهوم أن يتباين انحيازهم من الصراعات المركبة، ولكنه ليس من الطبيعي أن يكون الإنحياز من نوع أن يدير المثقف أو الفنان ظهره للقتل الواسع اللا تمييزي ولحصار مجتمعات بأكملها، وللموت تعذيباً في السجون، أو أن يتحول الفنان أو المثقف إلى داعية قتل معمم ولو كان محسوباً على الثورة، فهذا انحلال أخلاقي وفشل ثقافي.
مفهوم جيداً أن القضايا المحلية غدت قضايا عالمية مهما صغرت. وهذا يلقي على عاتق العالم مسؤولية استمرار الجرائم السياسية أينما كان. غير أن العالم يمضي إلى مناسباته الكثيرة الضخمة، مهرجانات للسينما والمسرح، مهرجانات للربيع وللمواسم، وبطولات عالمية، أولمبياد وباراولمبياد ..الخ، وكأن العالم على ما يرام.
لم يعلن العالم الحداد مثلاً، على مئات آلاف المدنيين الجزائريين الذين قتلوا فيما يسمونه هناك العشرية السوداء، ولم يدفع موت ما يقارب المليون شخص في راوندا وبوروندي خلال شهور قليلة، العالم إلى تأمل ذاته في المرآة.
وكذا كان الحال فيما يخص دارفور، وسيراليون، وسريبرينيتشا، ولبنان، وكذا هو الحال اليوم فيما يخص ليبيا والعراق وسورية واليمن وفلسطين.
هذا البهرج الإعلامي الضخم للمناسبات الفنية والرياضية هي قناع ضاحك يلقى على وجه العالم الكئيب. ولم تكن مظاهرات البرازيليين المضادة للألعاب الأولمبية واعتراضهم طريق الشعلة الأولمبية وإصرارهم على إطفائها، سوى محاولة يائسة لتمزيق هذا القناع. وللصراخ في وجه سادة العالم: إنكم تحتفلون على جسد عالم مريض، لكي تشيعوا الوهم أنه بخير.
عالم اليوم يغذي العنف ويتغنى بالسلم، يغذي التمييز ويتكلم عن المساواة، يمجّد القوة ويحتقر الحقوق ويستمر في تقديم خدمات شفوية للعدالة.
ليس فصاماً هذا الذي يعيشه العالم، إنه سياسة وتخطيط. العالم نفسه الذي يرعى وينفق المبالغ على تنفيذ عرض ضخم لافتتاح حدث رياضي أو فني، يرعى وينفق المبالغ على حرمان الفلسطينيين مثلاً من تقرير مصيرهم. ويعمل الشيء نفسه اليوم في سوريا.
العالم الذي يرفع القوة فوق مستوى العدالة هو عالم مختل ويجعل أكثر الناس ضعفاً قرابين لهذا الاختلال المحروس.
ليس قدراً على عالم اليوم أن يكون عاجزاً عن حماية المدنيين والأطفال من عنف دول ومنظمات يرعاها هذا العالم سواء أكانت رسمية أو غير رسمية.
رد هذا الظلم ليس فقط وظيفة السياسيين والنقابيين والمظلومين المباشرين في كل مكان، بل هو، من باب أولى، وظيفة الفنان والمثقف. حتى الجمال يفقد جماليته حين ينفصل عن الحق والخير.
نعلم أن أمر إصلاح أنظمة الحكم العربية يرتبط بأمر إصلاح العالم، وأن هذا شأناً بالغ التعقيد.
لكن القعود عن إيضاح الحق ومناصرته هو من مواصفات مثقفين وفنانين ضعيفين أو ضعيفي الأخلاق.
↧