في 17 آذار/مارس 2016، وبينما التقت الوفود التي تمثل كلاً من النظام السوري والمعارضة السورية في جنيف للبحث في آفاق اتفاق سلام، التقت مجموعات كردية بالقرب من الحدود العراقية من أجل إعلان إقامة منطقة فيدرالية تتمتع بحكم ذاتي في شمال شرقي سوريا.
أتى هذا الإعلان في هذا الوقت بالذات من أجل توجيه رسالة إلى كل من يحاول أن يقرر مصير البلاد، مفادها أن النزاع الذي تتخبط فيه سوريا لا يقتصر على صراعٍ ثنائي بين المعارضة والنظام، وأن أي حل طويل الأمد لن يكون ممكناً في سوريا من دون الأكراد. موقع اللّقاء كان أيضاً بالأهمية عينها. عوضاً عن الالتقاء في القامشلي، وهي بحكم الأمر الواقع عاصمة المنطقة التي يسيطر عليها حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي، اختار هذا الأخير عقد اللقاء في بلدة رميلان الصغيرة التي تُعتبر العاصمة النفطية لشمال شرقي سوريا. بالنسبة إلى سوريين آخرين، لكأن الأكراد يقولون «هذا النفط لنا»، ولن يشهد النزاع نهاية له من دون اتفاق جديد حول توزيع موارد البلاد.
شكّل هذا الحدث لحظة رمزية في تاريخ سوريا ما بعد الانتفاضة، وسلطّ الضوء على خطوط التصدع التي تقسّم السوريين، وعلى القضايا التي ستشكل سبب الصراع المقبل حول إعادة توزيع السلطة والموارد.
بعد مرور أكثر من خمس سنوات على بدء الانتفاضة الشعبية التي توسعت لتتحول إلى حرب تشمل جهات فاعلة محلية وإقليمية ودولية، ظهرت انقسامات عميقة بين السوريين، وهي انقسامات تتخذّ طابعاً طائفيّاً وإثنيّاً، بالإضافة إلى الانقسام الريفي/الحضري. ولّدت هذه الانقسامات مراكز جغرافية جديدة للسلطة تحظى بدعم قوى عسكرية محلية وبدعم مؤسسات استقلّت عن دمشق ولن تتنازل لها عن السلطة بسهولة، كما ولّدت درجات عالية من الشرعية المحلية.
تستعرض هذه الورقة 1 كيف تتجه هذه المناطق المختلفة نحو أنظمة حكم متباينة. حتى اليوم، لا تزال أجزاء معينة في البلاد تعمل بطريقة أفضل ممّا توقعه كثيرون. وفي المناطق التي يسيطر عليها النظام، ما زال حكم ما قبل الحرب قائماً إلى حد كبير، ولا تزال الدولة توفّر الخدمات وتحافظ على القانون والنظام. أما المناطق الواقعة خارج سيطرة النظام، فطوّرت مؤسسات بديلة للتعليم والأمن والخدمات الأساسية.
لكن في الوقت عينه، يُظهر معظم السوريين تعلّقاً استثنائياً بما لا زال يربطهم ببعضهم بعضاً، أي التاريخ المشترك ودولة تؤدي وظائفها بشكل مقبول نسبياً. كما يبدي السوريون رفضاً قاطعاً لكلّ ما قد يؤدي إلى تقسيم بلادهم. تستمر الروابط والعلاقات الاقتصادية والاجتماعية بين مختلف أجزاء البلاد، ومنها الروابط التي تجتاز خطوط الحرب ولا تتوقف عندها.
في هذا الإطار، تعتبر هذه الورقة أن نوعاً من اللامركزية السياسية التي تلحظ وضعاً خاصاً للمناطق ذات الكثافة السكانية الكردية العالية هو شرطٌ أساسي لإيجاد حل للنزاع الحالي والبدء بإعادة بناء سوريا. ولكن اللامركزية وحدها غير كافية، إلّا أنّها تشكل إحدى الوسائل القليلة التي من شأنها أن تشمل مراكز السلطة المحلية التي أبصرت النور في زمن الحرب، وأن تلبّي بشكل أفضل تطلّعات السوريين بمن فيهم الأكراد بالتوصل إلى توزيع أكثر عدلاً للموارد. اللامركزية قد تقلّص خطر تجدّد الصراع، بينما تضمن أيضاً مستقبلاً مشتركاً للشعب السوري.
مع مرور الوقت وما أن يهدأ العنف، لا بد لسوريا اللامركزية من اتخاذ خطوات تهدف إلى الحد من تفاوت التنمية الاقتصادية بين المناطق الجغرافية، وإلى توزيع الاستثمارات العامة والوظائف الحكومية بين المحافظات وفقاً لعدد السكان، وتخصيص حصة أكثر عدلاً من الإيرادات النفطية للمناطق المنتجة للنفط. ولا بد من منح المزيد من الصلاحيات على مستوى المناطق والمحافظات.
سيكون نقل سوريا من حقبة الدولة المركزية القوية ما قبل الانتفاضة إلى النموذج اللامركزي تحديّاً صعباً للغاية، لكنّه من بين الطرق القليلة المتبقية لرسم مسار يُخرج البلاد من هذا النزاع ويحافظ على تماسكها، وإن كان بشكل أقلّ إحكاماً. أمّا البديل فقد يكون الانهيار التام.
ما قبل الانتفاضة
حتى العام 2000 عندما خلفَ بشار الأسد والده، كانت الدولة المركزية لا تزال قوية نسبيّاً. إذ كانت مؤسسات الدولة تقدّم الخدمات في كافة أنحاء البلاد وكانت الحكومة أكبر موفّر للوظائف والاستثمارات. كان جهاز الدولة بمعظمه يتألف آنذاك من أعضاء من النخبة الريفية، بما فيها الطائفة العلوية والمنحدرون من مناطق بعثية تقليدياً مثل حوران في جنوب سوريا، ومنطقة الغاب في وسط البلاد ومدينة دير الزور.
لكن في ظل حكم بشار الأسد، بدأت الدولة بالانسحاب من هذا الدور. بعد العام 2005 على وجه الخصوص، تم خفض الدعم الحكومي لمعظم السلع والخدمات وتراجعت الاستثمارات العامة. قامت الحكومة بتحرير سياساتها التجارية والاستثمارية، ووجّهتها نحو قطاع الخدمات، الذي نَشّطَ في المراكز الحضرية وكان تحت سيطرة المقرّبين من الأسد، على حساب الضواحي والريف والمناطق البعيدة النائية، لا سيما القرى الشمالية في سوريا والمناطق الشرقية والجنوبية التي تعدّ الأجزاء الأكثر فقراً والأقل تطوّراً. تأثّر قطاع الزراعة إلى حد كبير بالارتفاع الذي طرأ على تكلفة المدخلات الزراعية التي نجمت عن رفع الدعم الحكومي، كما تأثّر أيضاً بسوء إدارة الحكومة لأزمة الجفاف على مدى سنوات.
وليس من باب الصدفة أنّه وبعد مرور خمسة أعوام على بدء الانتفاضة، فإن المناطق الخارجة عن سيطرة النظام هي بمعظمها المناطق التي عانت من التهميش الاقتصادي والسياسي، بينما لا يزال غرب سوريا المزدهر نسبيّاً في قبضة النظام المحكمة.
الحرب تجزّئ سوريا
تقدَّر الخسائر الاقتصادية الناجمة عن النزاع السوري بأكثر من 200 مليار دولار. أما المعلومات عن انخفاض نسبة التسجيل في المدارس، وارتفاع نسبة الفقر ونسبة الطلاق فتلقي الضوء على الدمار الذي لحق بالنسيج الاجتماعي لسوريا. وبالإضافة إلى الخسائر الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية الفادحة التي مُنيت بها سوريا، هناك آثار أخرى للحرب من المرجح أن تدوم، وهي انقسام البلاد إلى مناطق تقع تحت سيطرة ونفوذ مجموعات مختلفة متنافسة.
تنقسم سوريا اليوم إلى أربع مناطق نفوذ أساسية: منطقة يسيطر عليها النظام، وأخرى تنظيم الدولة الإسلامية أو داعش، وثالثة حزب الاتحاد الديموقراطي، والمنطقة الرابعة واقعة تحت سيطرة فصائل المعارضة المختلفة ومنها جبهة فتح الشام (التي عُرفت سابقاً بجبهة النصرة التابعة للقاعدة). ليست هذه المنطقة الأخيرة بحد ذاتها موحدة، بل تنقسم إلى بؤر صغيرة وكبيرة منتشرة في كافة أنحاء البلاد.
في المناطق التي تخضع لسيطرة النظام، لم يتغيّر الوضع كثيراً بالمقارنة مع فترة ما قبل الانتفاضة. لا تزال مؤسسات الدولة تعمل وتحافظ على القانون والنظام، ولم يطرأ أي تعديل على النظام القانوني. في المقابل، اضطّرّت المناطق خارج سيطرة النظام إلى التكيّف مع الانسحاب شبه التام للدولة. فابتكرت المجتمعات المحلية أنظمةً بديلةً من أجل فرض القانون والنظام، وتوفير المياه والكهرباء والخدمات الاجتماعية، وتعليم الأطفال وإدارة الاقتصاد. تتقيّد الآن مناطق المعارضة بالمحاكم الشرعية، بينما حاول الأكراد فرض نظام تعاوني لإدارة الاقتصاد في مناطقهم. في منتصف العام 2016، كان هناك ما لا يقل عن أربعة مناهج دراسية للأطفال السوريين، وثلاث عملات تُتداول بكميات كبيرة: الليرة السورية، والدولار الأمريكي والليرة التركية.
بكلمات أخرى، لم تتفكك سوريا سياسياً وحسب، وإنما بدأت أجزاؤها تتطاير في اتجاهات مختلفة، وبدأت تتبنى أنظمة حكم متعارضة ترسّخ جذورها يوماً بعد يوم.
مناطق النظام
تشمل المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام الجزء الأكبر من غرب البلاد، والمراكز الحضرية الرئيسية جميعها تقريباً، أي حوالي ثلثي السكان، وتقريباً جميع الدروز والعلويين والإسماعيليين والشركس والمسيحيين الذين ما زالوا يعيشون في سوريا. هذه المناطق ليست فقط متصلة جغرافياً مع بعضها البعض، على عكس معظم المناطق التابعة لسيطرة المعارضة، ولكن تتمتّع أيضاً بروابط أقوى مع سوريا ما قبل 2011. لا تزال الدولة في هذه المناطق تؤدّي دور المزوّد بالسلع والخدمات المدعومة، مثل الخبز والتعليم والصحة والكهرباء والمياه، وتلعب فيها الدولة دور المحافظ على القانون والنظام، ودور أكبر موفّر لفرص العمل في البلاد. يقدّر عدد الموظفين الحكوميين الحالي بأكثر من 50 بالمئة من مجموع السكان العاملين. والجدير ذكره هو أن توفير الخدمات الحكومية من قبل النظام يمنحه الشرعية لا سيما إذا ما قورن بالفوضى التي تعم المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة.
وسط الفقر والدمار الاقتصادي، يتم استخدام فرص العمل والاستثمارات الحكومية من أجل التعبئة الاجتماعية والسياسية. على سبيل المثال، تحصل المنطقة الساحلية التي يقطنها العلويون، وهم يشكّلون أساس قاعدة التأييد للنظام والقوة البشرية العسكرية، على معاملة تفضيلية. فقد أعلنت الحكومة في خريف العام 2015، بمناسبة ذكرى الحركة التصحيحية (وصول حافظ الأسد الى الحكم)، عن استثمارات بقيمة 30 مليار ليرة سورية في محافظتي طرطوس واللاذقية بينما لم يُخصص لمدينة حلب سوى مبلغ زهيد لا يتعدّى 500 مليون ليرة سورية. وحصل الأمر عينه في نيسان 2016 في عيد الجلاء، عندما تم الإعلان عن مبلغ 4 مليارات ليرة سورية لمحافظة ريف دمشق بمشاريع بينما وُعِدَت طرطوس واللاذقية بـ 37 مليار ليرة سورية، أي عشر أضعاف المبلغ المخصص لريف دمشق.
أما الاستثمار الخاص الذي انجذب إلى الأمن النسبي في المنطقة الساحلية فحذا الحذو نفسه، وإن لم يتعدَّ إجمالي الاستثمار إلا جزءاً بسيطاً ممّا كان عليه قبل الانتفاضة. تُظهر بيانات هيئة الاستثمار السورية على سبيل المثال أن 32 بالمئة من الاستثمار الخاص الذي رخصته في العام 2015 كان على الساحل، بينما النسبة التي رخصتها في المراكز الاقتصادية التقليدية في دمشق وحلب كانت أقل بقليل وبلغت 27 بالمئة. لكن بالمقارنة، جذبت دمشق وحلب في العام 2010 نسبة 40 بالمئة من المشاريع، بينما حصلت اللاذقية وطرطوس على 4.5 بالمئة فقط.
ويشكل التوظيف الحكومي وسيلة من أجل شراء الولاء، فازدادت حصة العلويين من الوظائف الحكومية، وكانت في الأصل كبيرة على نحو لا يتناسب مع نسبتهم من السكان قبل العام 2011. على سبيل المثال، أعلنت الحكومة في كانون الثاني/ديسمبر 2014 أن 50 بالمئة من الوظائف الجديدة في القطاع العام ستكون من نصيب عائلات «الشهداء»، أي جنود وأعضاء الميليشيات التابعة للنظام الذين قُتلوا وهم يحاربون قوات المعارضة، وهم بمعظمهم من الطائفة العلوية.
بالرغم من الحالة الطبيعية الظاهرية في المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام، شكّلت السنوات الخمس الأخيرة خسارة كبيرة للحكومة من حيث مواردها وشرعيتها. فوفقاً لصندوق النقد الدولي انخفضت الإيرادات الحكومية من 12 مليار دولار في العام 2010 إلى أقل من 900 مليون دولار في العام 2015. انخفاض الإيرادات يعني أن الحكومة لم تستطع أن تشتري كميات كبيرة من القمح من المزارعين في 2015 و2016. عوضاً عن ذلك اعتمدت على المساعدات الإنسانية والواردات الممولة عبر ائتمانات إيرانية أو مساعدات روسية، بالإضافة إلى المساعدات التي توفّرها المنظمات الإنسانية الدولية. هذا ما يظهر أن الحكومة فقدت قدرتها على تلبية احتياجات المزارعين وأن تعويلها على الحلفاء الأجانب يزداد، ممّا يساهم في إضعاف شرعية النظام.
أيضاً، بسبب نقص الموارد البشرية، تعتمد الحكومة بشكل متزايد على المجموعات والقادة المحليين من أجل الحفاظ على النظام وجمع الموارد وبسط نفوذها. من بين هؤلاء قادة ميليشيا قوات الدفاع الوطني التي تدعمها الحكومة، والذين يموّلون أنفسهم من خلال ابتزاز السكّان المحلّيين وأعمال الخطف والنهب، ورغم أن هذه الميليشيات هي موضع كراهية بسبب ممارساتها الإجرامية، إلّا أنها تمكنت من اكتساب قوّة ونفوذ مهمّين على الأرض. كما أن إمدادات المساعدات الإنسانية نحو المناطق المحاصرة تشكل مصدر دخل مهم بالنسبة إلى هذه الميليشيات والمتعاونين معها، فهم يستغلّون وجودهم ميدانياً من أجل الإشراف على عمليات توزيع المساعدات أو منعها.
في حمص، يُعتقد أن صقر رستم وهو القائد المحلي لجيش الدفاع الوطني، أي أكبر ميليشيا تابعة للنظام، يتمتّع بنفوذ أكثر من أي مسؤول في الحكومة. وفي حلب، يؤدي حسام قاطرجي وهو تاجر لم يكن معروفاً قبل الحرب، دور الوسيط في تجارة النفط والحبوب بين مناطق النظام والمناطق الكردية. كافأه النظام مؤخراً عبر «انتخابه» عضواً في البرلمان عن حلب.
يُعتبر وجود هذه الميلشيات التي يرتبط بعضها ارتباطاً وثيقاً بإيران وحزب الله، والتي غالباً ما تتنافس على النفوذ والسيطرة على الموارد، مصدراً متزايداً لانعدام الاستقرار في مناطق النظام. وهذا ما يبيّن أن الدولة لا تتحكّم بالكامل بكافة جوانب الحياة في المناطق الواقعة تحت سيطرتها. فالحكومة عمدت إلى إحالة الحكم المحلّي إلى الميليشيات المحلية المتحالفة معها لاسيما في ما يتعلّق بالقانون والنظام، الأمر الذي أدى إلى إضعاف موقعها.
في بعض الأحيان أدّى ذلك إلى تنامي التوتر وإلى صدامات داخل النظام. في شهر آذار مثلاً، اعتُقل فيليب سليمان وهو رئيس ميليشيا قوّات الغضب التابعة للحرس الجمهوريّ في مدينة السقيلبية المسيحية في ريف حماة وتعرّض للضرب على خلفية تهم بتهريب المشتقات النفطية. وفي تمّوز في محردة، وهي المدينة المسيحية الكبيرة الأخرى في محافظة حماة، نشر فهد الوكيل، وهو نجل رئيس الفرع المحلي لقوات الدفاع الوطني صوراً لوجهه المغطّى بالكدمات بعد أن تعرض للضرب على أيدي عناصر من المخابرات الجوية.
المناطق الكردية
أقام حزب الاتحاد الديموقراطي منطقة حكم ذاتي في شمال شرقي البلاد حول مدينة القامشلي، وفي جيب في شمال غرب حلب، وأطلق عليها اسم روج آفا، أو «كردستان الغربية».
منذ أوائل العام 2014، أقرت إدارة الحكم الذاتي الديموقراطي عشرات «القوانين»، منها شبه دستور عُرف بـ «عقد روج آفا الاجتماعي». وتم تأسيس هيئات جديدة لإصدار تراخيص للاستثمارات التجارية والمدارس ووسائل الإعلام، بينما يجري حالياً اختبار نظام اقتصادي تعاوني. في تشرين الأول 2015، أُنشئت أول جامعة في المنطقة في مقاطعة عفرين غرب حلب، وبلغ عدد طلّابها 180. ومن ثم في آذار أعلن حزب الاتحاد الديموقراطي خطة تقضي بإنشاء مصرف مركزي مستقل عن مصرف سوريا المركزي، ولكن لم يتّضح بعد كيف سيعمل أو إن كان يسعى إلى إصدار عملته الخاصة.
فضلاً عن ذلك، تم اعتماد منهج دراسي كردي بحت لسنوات التعليم الثلاثة الأولى في شهر أيلول 2015. حالياً لا يتعلم الأطفال اللغة العربية على الإطلاق، مما يقيم حواجزاً بينهم وبين سائر السوريين، ويصعّب على الأكراد على المدى الطويل الحصول على الوظائف في مؤسسات الدولة السورية أو الانتقال إلى مناطق أخرى داخل سوريا.
شهدت روج آفا إنشاء مؤسسات متنوعة، كما شهدت بروز قادة سياسيين جدد اكتسبوا النفوذ والأهمية، إضافةً إلى تأسيس شبكة واسعة من الجمعيات غير الحكومية وظهور القادة العسكريين، رغم أنه يُعتقد أن معظم قادة جناح حزب الاتحاد الديموقراطي المسلّح، أي وحدات حماية الشعب، هم من المواطنين الأتراك. كما أسّس الحزب مكاتب له في عواصم مختلفة في الخارج، مثل موسكو وبرلين وستوكهولم وباريس، مما ساهم في إقامة اتصالٍ مباشر بين قادة الحزب ومسؤولين أجانب.
من بين أسباب نجاح حزب الاتحاد الديموقراطي اتفاقه بحكم الواقع على تفادي أي مواجهة مع النظام، إضافةً إلى استقلالية مصادر دخله من عائدات استخراج النفط (يقدّر الإنتاج بحوالى 40 ألف برميل في اليوم)، بالإضافة إلى تنظيمه المنضبط والمنظّم بشكل جيد. ويستمدّ الحزب أيضاً شرعيته من دوره كمسؤول عن الحكم الذاتي الذي كافح الأكراد من أجله لعقود. بالإضافة إلى النفط، يعتمدُ اقتصاد روج آفا أولاً على الإنتاج الزراعي وعلى المساعدات الإنسانية التي ازدادت في الآونة الأخيرة. أما الاستثمار الخاص والتوظيف فما زالا محدودين.
لكن بالرغم من توسّع الحكم الذاتي، لا تزال الدولة السورية تؤدي دوراً بارزاً في روج آفا حيث تصدر الدولة كافّة مستندات السجل المدني (مثل شهادات الولادة والزواج والوفاة) وتدفع أجور الموظفين الحكوميين. وواقعُ أن الحكومة تواصل تقديم الخدمات يصب في مصلحة النظام من جهة، لأن إدارة مؤسسات الدولة وتقديم الخدمات هما مصدران مهمان للشرعية، ويلائم حزب الاتحاد الديموقراطي من جهة أخرى، لأن إقامة إدارة بديلة كان ليشكل عبئاً كبيراً عليه. كما يسيطر النظام على مطار القامشلي، وهو المرفق الأكثر أهمية في المنطقة والسبيل شبه الوحيد للخروج منها والدخول إليها. لذلك لا زال في يد النظام السوري، وبالتالي في يد الحكومة المركزية، عدد من الوسائل المهمة لممارسة النفوذ في علاقتها مع حزب الاتحاد الديموقراطي.
تشهد روج آفا أيضاً توترات بين وحدات حماية الشعب وقوات النظام، وبين الأكراد ومجموعات إثنية أخرى، وبين مختلف المجموعات الكردية: حزب الاتحاد الديموقراطي من جهة، والمجلس الوطني الكردي الذي يضم عدة أحزاب كردية مقرّبة من الائتلاف الوطني من جهة أخرى.
في أيلول 2015، أقر المجلس التشريعي في مقاطعة الجزيرة قانون إدارة وحماية أموال المهاجرين والغائبين، ويجيز هذا القانون مصادرة كافّة ممتلكات العائدة للأفراد الذين تركوا المنطقة. رفض ممثلون عن الآشوريين في المجلس التصويت على هذا النص، وشعرت الطائفة برمّتها أن هذا التدبير يستهدفها. فيما لا يشير القانون صراحة إلى أي مجموعة إثنية محددة، إلا أن عدد المسيحيين الذين فرّوا من المنطقة أكبر بكثير من عدد أي مجموعات أخرى ويُعتقد بأن المسحيين أكثر ثراءً من سائر المجموعات وبالتالي سيتأثرون أكثر من سواهم بمصادرة الأصول والأملاك. في محاولة لاسترضاء الطائفة المسيحية، تراجع حزب الاتحاد الديموقراطي في النهاية عن قراره ووافق على تسليم أي ممتلكات صودرت من المسيحين إلى الكنيسة، وعلى الأرجح أن هذه الخطوة كانت تهدف أيضاً إلى تجنّب أي ردة فعل سلبية من قبل الدول الداعمة للأكراد، والتي تكون عادةً متعاطفة مع المسيحيين.
أدت المنافسة مع حكومة إقليم كردستان في العراق بقيادة مسعود بزراني الذي يدعم المجلس الوطني الكردي إلى المزيد من التوتر، بما في ذلك الإغلاق المتكرر لمعبر سيمالكا الحدودي نحو إقليم كردستان، وهو المعبر البري الوحيد إلى خارج روج آفا، ويؤدّي هذا الإغلاق إلى موجات متكررة من الشحّ في البضائع وإلى تضخم الأسعار.
مناطق تنظيم الدولة الإسلامية
غالباً ما يُنظر إلى تنظيم الدولة الإسلامية عبر عدسة إيديولوجيّته أو أعماله الإرهابية، لكن أثبت هذا التنظيم أنه قادر نسبياً على إدارة المناطق الواقعة تحت سيطرته. أسّس التنظيم نظام حكم ساعده في حصد ما يكفي من الموارد لتمويل عملياته العسكرية، والحفاظ على نوع من القانون والنظام، وتوفير الحد الأدنى من الخدمات للسكان.
إدارته التي تشمل مناطق على الحدود السورية العراقية تعوّل إلى درجة كبيرة على استغلال موارد النفط والغاز حول منطقة دير الزور، وهذا ممكن جزئيّاً بفضل الاتفاق بحكم الواقع مع النظام على إدارة محطات معالجة الغاز وتوزيع الإنتاج على الشبكة الوطنية. وطوّر التنظيم موارد دخل أخرى، منها الضرائب على البضائع والعبور، بالإضافة إلى أشكال أخرى من الابتزاز.
في الرقّة وهي بحكم الأمر الواقع عاصمة «الخلافة» التي أعلنها تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا والعراق، سنّ داعش «قوانين» لتنظيم الحياة اليومية وأنشأ إدارةً مالية تُدعى مكتب الزكاة وتُعنى بجمع الضرائب وإصدار ميزانية سنوية، كما شكّل قوة شرطية مهمتها التأكد من التزام المواطنين بـ«الفضيلة».
تتراوح تقديرات الميزانية السنوية للخلافة، والتي تشمل أيضاً الإنفاق في العراق، بين 1.5 و2.5 مليار دولار، رغم أنّها قد انخفضت في الأشهر الأخيرة بسبب استهداف الضربات الجوية التي يشنّها الائتلاف بقيادة الولايات المتحدّة لأجزاء من البنى التحتية النفطية.
شكّك كثيرون بأن مشروع داعش سيصمد ويستمر، لا سيما في ضوء الحرب الشاملة المعلنة ضدّه من قبل كل دولة في المنطقة تقريباً، ومن قبل القوى الدولية. لكن من الخطأ الاعتقاد بأن تدمير التنظيم سيعيد الوضع إلى سابق عهده. وطبعاً ما من شكّ حيال المظالم التي شهدتها هذه المناطق، التي تعود إلى سنوات ما قبل الانتفاضة. وبما أن شرق سوريا يزخر بالموارد النفطية ورغم ذلك يتخبّط في نقص التنمية، من المرجح أن يحاول السكان قدر المستطاع منع الدولة المركزية من استعادة السيطرة على موارد هذه المناطق.
مناطق المعارضة
ثمة خصائص عديدة تميز المناطق الواقعة تحت سيطرة المعارضة عن المناطق التي يسيطر عليها حزب الاتحاد الديموقراطي وداعش، من بينها تبعثر مناطق المعارضة وترسخ الطابع المحلي في كل من مناطقها. تقع معظم مناطق المعارضة على طول محور دمشق-حلب الأساسي، إن كان في المناطق الريفية الواسعة أو في ضواحي المدن الأساسية ومنها دمشق. أما في حلب، فتشمل هذه المنطقة تقريباً نصف مدينة حلب نفسها.
أدّى هذا التبعثر إلى بروز مجموعةٍ كبيرة من السلطات العسكرية والمدنية في آن معاً، ولكن من دون أي تسلسل قيادي. تعاني إدارة هذه المناطق أيضاً من كون عملية اتخاذ القرار محلية جداً، وبالتالي فإن أي جهود أو مشاريع مشتركة بين مختلف القرى في المنطقة عينها قد تشكّل تحدياً صعباً.
ولعب التفكك السياسي والعسكري دوراً أساسيّاً في فشل مشروع إقامة إدارة موحدة، تماماً كسياسة النظام التي قضت بالتصدّي عبر القصف الممنهج لكل ما تخشى أنه قد يشكّل بديلاً عنها. في المقابل، لم يتم قصف مناطق الأكراد وداعش إلى حد كبير. ويُعتقد أن تدمير الجزء الشرقي من حلب التابع للمعارضة في أواخر العام 2013 ومطلع العام 2014 كان على الأغلب نتيجة تخوف النظام من أن الإدارة حديثة النشأة هناك قد تتطّور لتصبح بديلاً فعلياً عنه.
برزت تركيا كالبوابة الأساسية لمعظم النشاط الاقتصادي الذي يعبر نحو مناطق المعارضة، وبما أن القدرة الإنتاجية لهذه المناطق قد دُمّرت إلى حدّ كبير، فهي باتت تعوّل الآن على المساعدات الإنسانية والتحويلات المالية والواردات التي تأتي إما من تركيا في الشمال أو من الأردن في الجنوب. في العام 2014، عادت الصادرات التركية إلى سوريا ومعظمها نحو مناطق المعارضة إلى المستويات القياسية التي حققتها في عام 2010، وبلغت 1.8 مليار دولار، إلّا أنها انخفضت قليلاً خلال العام 2016 إلى 1.5 مليار دولار.
والجدير ذكره أن مناطق المعارضة هي المناطق التي نشأ فيها المجتمع المدني السوري الجديد، حيث وللمرّة الأولى منذ أكثر من خمسة عقود استطاع السوريون أن يشاركوا في انتخاب قادتهم، وإن كان ذلك محصوراً على المستوى المحلّي وجرى في ظروف غير مثالية. فقد رأت مجموعة متنوّعة من المؤسسات النور وهي تعمل في مجالات العدالة وحقوق الإنسان والتنمية الاقتصادية. في آذار 2016، بلغ عدد المجالس المحلية الناشطة في البلاد حوالي 395. في النهاية من المرجّح أن تشكل هذه الهيئات المحلية نواة الإدارات المحلية المستقبلية في سوريا اللامركزية.
لا تغيب الدولة السورية بالكامل عن هذه المناطق، مع أن وجودها فيها يضمحل بشكلٍ متزايد مع مرور الوقت. فقد استمر الموظفون الحكوميون في تلقّي رواتبهم شرط عدم انضمامهم إلى المعارضة، ولكن مع تزايد الضغط على موارد الحكومة توقفت عملية التسديد إلى حد كبير.
أضف على ذلك أن مناطق المعارضة وعلى عكس مناطق الأكراد والنظام، تتميز بتجانسها إلى حد كبير من وجهة نظر إثنية أو طائفية. فسكانها هم إجمالًا من العرب السنّة. وبالرغم من غياب أي تمييز رسمي بحق الأقليات ومن أن استهدافهم كان محدوداً، فإن تزايد نفوذ المجموعات الإسلامية جعل الأقليات الدينية والإثنية تشعر بعدم الارتياح في مناطق المعارضة، كما تعرّض بعضها للاعتداء أو أُجبر على المغادرة.
تطلّعات متنافسة
ما يوحّد السوريين
على الرغم من هذه الصورة القاتمة والمروّعة ومشاهد التقسيم والتشتّت، حافظ السوريون على تعلّقهم الفريد بوطنهم. وبالرغم من خمس سنوات من الحرب والانقسامات الحادّة، ما زالت الدولة المركزية هي إطار العمل الوحيد الذي تعترف به أغلبية السوريين من كافة الطوائف والمناطق والطبقات الاجتماعية. والاستثناء الملحوظ الوحيد هو المناطق الكردية في الشمال الشرقي (روج آفا) حيث ترتفع الأصوات المطالبة بالحكم الذاتي. لكن الأمر ليس سيان بالنسبة إلى الأكراد جميعهم، وبشكلٍ خاص الأكراد المنتشرين في أنحاء أخرى من سوريا. فمئات آلاف الأكراد الذين يعيشون في دمشق وحماة وحلب (حلب هي المدينة السورية التي تضم أكبر جالية كردية وليس القامشلي) يسجّلون أولادهم في المدارس الرسمية، ويديرون أعمالهم الخاصة، أو يعملون في القطاع الخاص أو العام.
ومن بين أسباب التعلّق الشديد لمعظم السوريين بوطنهم هو أنه بالرغم من بروز هذه الحدود الداخلية الجديدة، إلا أنهم ما زالوا مرتبطين بعلاقات تجارية وتبادلات في ما بينهم. في سوريا ما قبل الثورة، كان الاعتماد الاقتصادي المتبادل بين كافة أجزاء سوريا متيناً وملحوظاً. كان القسم الغربي الأكثر تطوراً التابع حاليّاً لسلطة النظام يعتمد على النفط والقمح وغيرها من السلع (كالغاز والفوسفات والقطن) الآتية من المناطق الشرقية الأقل تطوراً، والمنقسمة اليوم بين سلطة داعش وحزب الاتحاد الديموقراطي. ويستمر هذا الاعتماد حتى اليوم وإن بدرجة أقل من السابق. يُشحن النفط والحبوب من الشرق إلى المناطق الغربية المكتظّة بالسكان، وتجري التحويلات المالية عبر الحدود ويتم تداول سلع عديدة بين مختلف المناطق. ما زالت السلع المصنّعة التي يتم إنتاج معظمها في مناطق النظام تُوزَّع في كافة أنحاء البلاد. وتكثر الأمثلة عن صفقات المقايضة بين مناطق النظام والمعارضة.
يشكّل دور الدولة السورية تاريخياً سبباً آخر يدفع السوريين إلى التعلق بوطنهم، فالدولة تؤمّن الوظائف لمئات آلاف الأشخاص، وتوفّر خدمات التعليم والصحة لملايين آخرين، وأثبتت الدولة في زمن الحرب أنها قادرة على التكيف والصمود والحفاظ على فعاليتها.
وفي الوقت عينه، فإن النزوح الداخلي للسوريين سيساهم أيضاً في تعزيز ارتباطهم ببعضهم بعضاً. في المنطقة الساحلية مثلاً، الأفضل حالاً بين النازحين القادمين من مناطق مثل حلب وإدلب يشترون اليوم الأملاك ويؤسسون الأعمال. وفي محافظة طرطوس، تضاعف عدد الشركات الفردية في العام الماضي من 867 في 2014 إلى 1752. ويرى هؤلاء أكثر فأكثر أن مستقبلهم هو على الساحل السوري، ويساهمون بذلك في تغيّر ديموغرافي تدريجي إذ يرتفع عدد السكان السنّة في هذه المناطق. ويحافظ هؤلاء الأشخاص على علاقاتهم العائلية والاجتماعية والتجارية مع مناطق المنشأ، ممّا يساهم في تعزيز الروابط بين مختلف مناطق سوريا. كذلك، توافد الى طرطوس نازحون فقراء هرباً من العنف في الضواحي باتجاه المراكز الحضرية التابعة بمعظمها للنظام، وبدورهم يحافظ هؤلاء على علاقات وطيدة مع المناطق التي ينحدرون منها والتي تسيطر المعارضة على الجزء الأكبر منها.
في النهاية، لا بد من الاعتراف بأن عقوداً من الاقتصاد الموجّه مركزياً، ومن بناء مؤسسات وطنية، واعتماد منهاج دراسي موحد، ونشر بروباغاندا النظام بشكل ممنهج، تركت هذه العوامل بصماتها بشكل واضح على المجتمع السوري. ويعتري السوريين أيضاً شعور بالخوف من المجهول، فحتى بعد كل الدمار الذي شهدته سوريا في السنوات الخمس الأخيرة، ما زال مثال العراق وتفكّكه والعنف المستشري فيه يثير الذعر في نفوس السوريين.
ما موقف أطراف النزاع؟
يتشاطر عدد كبير من السوريين سواء من المعارضة أو النظام النظرة عينها، ومفادها أن أي خطوة باتجاه اللامركزية ستؤدي حتماً إلى تقسيم سوريا. لكن بات واضحاً بسبب اشتعال النزاع على مدى خمس سنوات، أقلّه بالنسبة إلى البعض في المعارضة، أنه لا غنى عن إجراء إصلاحات جوهرية في نظام الحكم.
في المؤتمر الذي انعقد في القاهرة في شهر تموز 2012 والذي حضرته أطراف المعارضة السورية جميعها، اعترف البيان الختامي الذي تعتبره حركات المعارضة وثيقة مرجعية، بـ «وجود قومية كرديّة ضمن أبناء (الدولة السوريّة)، وبهويّتها وبحقوقها القوميّة المشروعة وفق العهود والمواثيق الدوليّة ضمن إطار وحدة الوطن السوري». شدّد هذا البيان على وضع حد لكافة أشكال التمييز المرتكبة بحق الأكراد، لكنه لم يدخل في تفاصيل خريطة سوريا السياسية المستقبلية.
لكن الائتلاف الوطني، أكبر تجمع للمعارضة، مكبّلٌ في اعتماده على أنقرة التي تعارض بشدة أي خطوة قد تشجع الانفصال الكردي في تركيا. ويرتبط حزب الاتحاد الديموقراطي بروابط وثيقة مع حزب العمال الكردستاني الذي يخوض صراعاً مع الدولة التركية.
أما النظام فيعارض تماماً فكرة اللامركزية، وهو غير مستعدّ للتوصل إلى تسوية في هذا الخصوص. إن التشدد في الخطاب القومي، في حين تسيطر طائفة أقلية على النظام، هو مصدر أساسي لشرعية النظام، مما يعطيه هامشاً أضيق للتصرف بالمقارنة مع المعارضة. لرفض النظام فكرة اللامركزية صلة مباشرة أيضاً بالمصالح الاقتصادية لنخب الاقتصاد والأعمال المقرّبة من النظام والمتمركزة في العاصمة، إذ تخشى هذه النخب خسارة السلطة والثروة والنفوذ التي منحتها دوراً بارزاً في سوريا الحديثة على مدى عقود. أيضاً، تحمي الدولة السورية بشكل خاص المصالح الاقتصادية والسياسية للطائفة العلوية. لذا من غير المفاجئ أنّه في استطلاع للرأي أجرته منظمة «اليوم التالي»، وهي منظمة غير حكومية سورية مقرّها في إسطنبول، حول موقف السوريين من اللامركزية، كانت الطائفة العلوية من أشد معارضي فكرة اللامركزية.
في أيار 2016، أعدّت روسيا مسودة دستور أقرت فيه الحاجة إلى نظام لامركزي. وفقاً لمقتطفات نشرتها الصحيفة اللبنانية الموالية للنظام الأخبار، دعا النص إلى حذف كلمة «عربية» من اسم البلد الرسمي، والسماح باستخدام اللغة الكردية في المناطق الكردية، وتأسيس مجلس يتمتّع بسلطات تشريعية ليمثّل مصالح الإدارات المحلية. في هذه الحالة تتوسع صلاحيات المناطق، ويكون لرئيس الوزراء السوري عدة نواب يمثلون الأقليات الدينية والإثنية. ووفقًا لـ الأخبار، رفض النظام في غضون بضعة أيام كل هذه الاقتراحات الروسية.
تؤيد المجموعات الكردية بما فيها المجلس الوطني الكردي وحزب الاتحاد الديمقراطي نموذجاً لامركزياً أكثر جذرية وهو الفدرالية. ومع أن الفريقين يتنافسان على الساحة السياسية، إلّا أنهما يتفقان بشأن توسيع صلاحياتهما مما يسمح لهما بإدارة كافة شؤونهما اليومية. لا يطالب أي حزب سياسي كردي بأي نوع من التقسيم، وتزعم جميع الأحزاب الكردية أنها تريد البقاء ضمن إطار الدولة السورية. ويعكس هذا الموقف الكردي إلى حد ما الاوضاع الإقليمية السائدة، إذ أن أي خطوة نحو الاستقلال ستلاقي رفضاً من قبل كافة دول المنطقة التي تعيش فيها أعداد كبيرة من الأكراد، ومنها إيران وتركيا.
اللامركزية: القضايا المطروحة
جزّأت الحرب في السنوات الخمس الأخيرة سوريا إلى مناطق مختلفة، لكل منها نظامها الخاص وقوانينها ولغتها الخاصة حتى، وقد تشكّل اللامركزية إحدى الوسائل الواقعية لرسم مسار جديد نحو المستقبل. يمكن لنقطة انطلاق اللامركزية أن تكون الوقائع التي فرضت نفسها فعلياً على الأرض، بينما يتم المحافظة على سلامة أراضي الدولة السورية وإرضاء ما يكفي من الأطراف المعنية.
لكن المشكلة في النقاش حول اللامركزية هي عدم فهم ما تترتّب عليه هذه الأخيرة، وعدم معرفة المسائل التي تدخل في صلب هذا النقاش وهي:
التقسيم الإداري
تنقسم سوريا حالياً إلى 14 محافظة، لكل منها عاصمة، ثم تنقسم المحافظات إلى مناطق والمناطق إلى نواحي. ما زالت سوريا دولة مركزية بامتياز لا تتمتّع فيها المناطق والنواحي سوى بصلاحيات محدودة. لذا سيكون اختيار المستوى الذي تبدأ عنده اللامركزية أمراً في غاية الأهمية. ويشمل ذلك مسألة الشرخ الريفي/الحضري. في حلب مثلاً حيث يظهر هذا الشرخ جليّاً، هل يجب أن يكون هناك محافظة للريف منفصلة عن المدينة؟ المناطق التي يسكنها الأكراد لا تتطابق مع التقسيم الإداري الحالي، هل يجب توسيع نطاق صلاحيات المحافظات أو المناطق أو النواحي؟ ويبرز سؤال جوهري آخر: ما الشروط التي تحدّد تفاصيل تحويل الإيرادات الضريبية من المركز إلى المناطق؟
الموارد الطبيعية
يحتوي شرق سوريا على احتياطي كبير من النفط، وتُزرع في هذه المناطق كميّات كبيرة من القمح والقطن والشعير. يحدّ سوريا في الشمال الشرقي نهر دجلة الواقع على طول الحدود العراقية. لم تقم سوريا بعد باستغلال هذا النهر فعلياً لكنّه كافٍ لري مساحات شاسعة من الأراضي. وهنا أيضاً تبرز الأسئلة التالية حول اللامركزية: إلى من يعود هذا الاحتياطي وهذه الموارد، هل للسوريين جميعهم أو لمن يعيش بالقرب من هذه الموارد فقط؟ كيف سيتم تطويرها؟ وكيف سيتمّ توزيع عائداتها؟
يوضح لقاءُ حزب الاتحاد الديمقراطي في رميلان، ورفضُ النظام والمعارضة المقاربة التي اعتمدها الأكراد، أن التحكّم بالموارد النفطية سيكون جزءاً أساسياً من أي مفاوضات مستقبلية. وهذا لا ينطبق فقط على المناطق الكردية، بل أيضاً على سائر المناطق السورية التي تزخر بالموارد الطبيعية مثل دير الزور، وهي مركز مهم آخر لإنتاج النفط.
السياسة الاقتصادية للدولة
سيشكل توزيع الوظائف الحكومية مسألة جوهرية في بلد حيث تمتص الدولة حوالي ثلث القوى العاملة التي تدخل سنوياً إلى سوق العمل، كما يلعب استثمار الدولة في منشآت البنى التحتية والمرافق الصحية والتربوية وفي مشاريع اقتصادية دوراً أساسياً. في الماضي هدف هذا الاستثمار إلى الحد من اختلال التوازن الجغرافي، لكنه دور تخلّت عنه الحكومة السورية ما أن بدأت بتحرير اقتصادها في مطلع الثمانينيات، ممّا أثّر على وجه الخصوص على المناطق الأكثر فقراً. من المتوقّع أن تعود هذه القضايا إلى الواجهة أكثر فأكثر في إطار أي جهود تُبذل بعد النزاع لإعادة الإعمار. ومما لا شك فيه أن الأطراف المعنية ستختلف حول من سيتسلّم إدارة الدفّة المالية في البلاد، وحول ما إذا كانت الحكومة المركزية في دمشق هي من سيتولّى إدارة إعادة الإعمار. في هذه الحالة، سيكون المستفيد الأكبر المقاولون والمورّدون وغيرهم من أعضاء النخبة كرجال الأعمال المقربّين من مركز السلطة.
العلمانية والتنوّع الإثني والاعتراف بالطوائف
ليست سوريا دولة علمانية بحتة، ولكن منذ إعلان الاستقلال وحتى في سنوات حكم البعث، كانت الدولة دامجة لكافة المجموعات الدينية واعترفت بالمعتقدات والممارسات الدينية وحرصت على حمايتها. لم يكن للدين أي دور في تعيين كبار موظفي الدولة والمسؤولين الحكوميين. الاستثناء الوحيد هو منصب رئيس الدولة الذي يُحظَّر على المسيحيين وذلك وفقًا للدستور الذي أُقرّ في العام 2012 في ظل رئاسة بشار الأسد.
لكن في ما يتعلّق بالإثنيات، يعاني غير العرب من تمييز رسمي. فمنذ إعلان الاستقلال، شكّلت القومية العربية الطموح السياسي لكافة الأحزاب السياسية تقريباً، ومنذ أن تسلّم حزب البعث زمام السلطة في العام 1963، تحوّلت القومية العربية إلى الإيديولوجيا الرسمية للبلاد. تحمل سوريا اسم «الجمهورية العربية السورية»، في حين لا تأتي معظم البلدان العربية على ذكر كلمة «عربية» في أسمائها الرسمية. في سوريا، اللغة العربية هي اللغة الرسمية الوحيدة ولا يتعلم الطلّاب في المدارس والجامعات الرسمية سواها. تعرّض الأكراد بشكلٍ خاص إلى التمييز بسبب حجم المجتمع الكردي وتركيزه الجغرافي، فاعتُبِرَ الأكراد خطراً على الوحدة الوطنية. وغداة الانتفاضة، ارتفعت أصوات أقليّات أخرى تطالب بالاعتراف بها، منها الآشوريون والتركمان والشركس والأرمن.
ونظراً لما شهدته البلاد على مدى السنوات الخمس الأخيرة، يصعب تخيّل أن سوريا ستكون قادرة على العمل على أساس «شخص واحد، صوت واحد». على السوريين أن يقرّوا بأن الحديث عن مخاوف الأقليات أمر مبرّر. أين تطبّق حقوق المجموعات الطائفية وأين تحصل حقوق الأفراد على الأسبقية؟ كيف نحافظ على حرية الأفراد وحقوقهم وسط تزايد دور الإثنيات والطوائف في سوريا؟ وكيف نبني دولة يعيَّن فيها الأشخاص على أساس الكفاءة وليس الطائفة؟ لا تزال هذه الأسئلة تبحث عن أجوبة لها.
اقترحَ البعض تأسيس نظام برلماني من غرفتين، تمثّل فيه الغرفة العليا الطوائف والإثنيات، لضمان نوع من التمثيل السياسي لهذه المجموعات، بينما تُنتخب الغرفة السفلية على أساس «الشخص الواحد، الصوت الواحد». يشبه هذا النظام إلى حدّ ما اتفاق الطائف الذي وضع حداً للحرب الأهلية في لبنان. تقترح مسودة الدستور الروسية نظاماً مماثلاً من غرفتين، وبموجبه يمثل مجلس المناطق الإدارات المحلية بينما تمثل الحكومة الطوائف والإثنيات.
التوصيات
ستؤدي إعادة تنظيم البنية السياسية لسوريا إلى إقامة بلدٍ مختلف تماماً عمّا كان عليه قبل انتفاضة العام 2011. أيام سوريا القديمة أصبحت معدودة. أمام السوريين وحلفائهم الدوليين مسائل شائكة تنتظرهم بينما يحاولون رسم طريقهم نحو المستقبل. ولكن من الواضح أنه لا عودة إلى الدولة المركزية بامتياز، التي كانت قائمة قبل 2011. ولهذه الحقيقة تداعيات جمّة على الجهود الرامية إلى إنهاء النزاع.
في ما يلي بعض الأفكار العامة حول الانتقال إلى نظام لامركزي:
– لا بدّ لسوريا أن تتبنّى نظاماً سياسياً لا مركزياً يرتكز على نقل السلطة من دمشق إلى المحافظات والمناطق، ولا بد من منح المناطق الكردية وضعاً خاصاً مصحوباً بالمزيد من الصلاحيات في إطار لامركزية غير متناسقة.
– بينما تُطبّق اللامركزية ويتم الاعتراف بالطوائف كجهات سياسية فاعلة، على الدولة المركزية الاحتفاظ باحتكارها لعدد من المسائل السيادية على غرار الدفاع والعلاقات الخارجية وطباعة العملة.
– يجب أن تحذف كلمة «عربية» من اسم سوريا الرسمي، فهذه الخطوة الرمزية تتماشى مع العدد الأكبر من البلدان العربية ومنها العراق ولبنان، وتبعث رسالة إيجابية للسوريين غير العرب.
– على الدولة أن تؤمّن التعليم لأطفال الأقليات بلغتهم الأم، وفي المناطق الكردية في الشمال الشرقي، وفي المناطق ذات الأغلبية الكردية في دمشق وحلب، على المدارس أن تعلّم اللغتين العربية والكردية.
– على الدولة أن تستخدم الأدوات المتاحة لها للحد من التفاوتات الجغرافية في مجال التنمية الاقتصادية. مثلاً يجب أن يستند تأمين فرص العمل في كل محافظة إلى عدد السكان فيها مقارنةً بإجمالي عدد السكان في سوريا. وإن أمكن، يجب تطبيق السياسة عينها في مجال الاستثمارات العامة.
– لا بد من إعادة توزيع إيرادات تصدير النفط على المناطق وفقاً لعدد السكان فيها، من منطلق أن الموارد النفطية هي ملك لكل سوريا.
– لا بد للطوائف والإثنيات من الحصول على نوع من التمثيل السياسي على المستوى المركزي، ويمكن لنظام من غرفتين أن يكون الحل، لكن الاقتراح الروسي الذي يقضي بتعيين أعضاء في الحكومة على أساس انتماءاتهم الدينية أو الإثنية قد يؤدي إلى مأسسة هذه الانقسامات والوصول إلى حائط مسدود. عوضاً عن ذلك، يجب أن يكون التمثيل الطائفي على المستوى التشريعي في الغرفة العليا المكلّفة بالإشراف والرقابة ومنع التمييز. على المستوى التنفيذي، يجب الامتناع عن التعيين في الوظائف الرسمية أو توزيعها بحسب الانتماءات الطائفية أو الإثنية.
قد لا تؤتي هذه التوصيات ثمارها إلا على المدى البعيد، ولكن لا بد من البدء بتطبيقها منذ الآن. فهذه التوصيات ليست مجرد وصفة لضمان استقرار سوريا بعد الحرب فحسب، وإنما قد يكون لها الأثر الأكبر في إنهاء الحرب. على سبيل المثال، إن الاعتراف بحقوق الأكراد والأقليات الإثنية الأخرى، وضمان توزيع أكثر عدلاً للموارد قد يساهم في إقناع الأكراد بالانضمام إلى الجهود المبذولة من أجل التوصل إلى حل سياسي متفاوض عليه.
لقد مرّت خمس سنوات على اندلاع هذا النزاع الذي طال أمده بشكلٍ يفوق جميع التوقعات، ما من عذر يعفينا من ضرورة أن نكون على أهبة الاستعداد لحظة انتهاء الحرب.
جهاد يازجي: الجمهورية
↧