لا شكّ في أنّ العيش لسنوات في منطقة جغرافية محدّدة، تحت القصف وفي ظل حصار خانق يمنع عن ساكنيها متطلبات الحياة الأساسية، تجربة لا تتكرّر كثيراً. هذا ما يختبره أكثر من 40 ألف مدني سوري، معظمهم من الأطفال والنساء، في بلدتَي مضايا وبقين المتلاصقتين، على مقربة من العاصمة السورية دمشق.
"الحياة في مضايا هي عبارة عن حالة متواصلة من البؤس". هذا ما يقوله فراس الحسين، وهو ناشط في مجلس مدينة مضايا. يضيف لـ"العربي الجديد" أنّه "منذ لحظة الاستيقاظ صباحاً، ينطلق أفراد العائلة لتأمين احتياجاتهم اليومية، لا سيما وجبة الطعام الوحيدة، التي يتناولونها عادة، خصوصاً في حال لم تتوفّر المساعدات الإنسانية. كذلك يسعون إلى مياه الشرب والحطب أو أيّ مواد أخرى من شأنها أن تساعد في عمليّة الطهو. وفي هذه الأيام، يبحثون كذلك عمّا يمكن أن يساهم في تدفئتهم خلال فصل الشتاء المعروف ببرودته".
ويشير الحسين إلى أنّ "ثمّة ألفة اجتماعية لأسباب عدّة، منها أنّ أهالي المنطقة من لون طائفي واحد بالإضافة إلى صلات القربى، علماً بأنّ المجتمع ريفيّ مضبوط بعادات وتقاليد". ويتابع أنّ "حركة الناس تتوقف قبل غروب الشمس، مع غياب الكهرباء التي من شأنها إنارة الشوارع، لا سيما مع توتّر الوضع الأمني وحركة القنص". ويوضح أنّ "الأحاديث التي تدور بين الأهالي غالباً ما ترتبط بحياتهم اليومية، منها كيفية تأمين الحطب لفصل الشتاء في ظل ارتفاع أسعاره، وكذلك حوادث القنص أو الأمراض، بالإضافة إلى المسألة الأهم وهي بقاؤهم في أرضهم أم احتمال تهجيرهم".
ويتحدّث الحسين عن الفتية والشباب، الذين يحاولون بعد الانتهاء من واجباتهم العائلية، أن يعيشوا حياتهم مثل نظرائهم، "فيمارسون بعض النشاطات الرياضية من قبيل كرة القدم، في حال توفّرت مساحة بعيدة عن أعين القناصين". ويذكر أنّ حوادث قنص عدّة وثّقت في الفترة الماضية، استهدفت أطفالاً كانوا يتوجهون إلى مدارسهم.
إلى ذلك، يشدّد الحسين على أنّ "عمالة الأطفال من المشاكل الاجتماعية في المنطقة، إلى جانب تسرّب نحو 50 في المائة من التلاميذ من المدارس، من جرّاء الواقع الاقتصادي المتردي". يضيف أنّ الأمر "يرتبط كذلك بعدم توفّر مناهج دراسية ومدرّسين اختصاصيين. والأهل يتخوّفون من إرسال أبنائهم إلى المدارس والمعاهد المنشأة على أساس مبادرات، بسبب انتشار أمراض عدّة كالتهاب السحايا". وعن الزواج، يقول الحسين إنّ "نسبته منخفضة من جرّاء الواقع المأساوي الذي يعيشه المحاصرون. والزيجات التي تحصل تكون من دون مظاهر الفرح التي اعتادها الأهالي، فلا غناء ولا ضيوف ولا ضيافة وغيرها من مستلزمات الأفراح".
من جهتها، تقول أم محمد، وهي ناشطة محاصرة في مضايا، إنّ "الحصار يقتلنا ونحن أحياء. مضى نحو عام ونصف العام من دون أن ألتقي بأيّ من أفراد عائلتي الذين غادروا البلاد قبل فرض الحصار، ومنهم أختي التي تتزوج قريباً. لكنّ الحظ يحالفنا في بعض الأحيان، فنتواصل معهم عبر شبكة الإنترنت، من دون أن يطفئ ذلك نار شوقنا إلى لقياهم".
تضيف لـ "العربي الجديد": "في داخل مضايا، لا نشعر بالأمان. في أية لحظة، قد تصيبنا طلقة قناص أو تهبط على رؤوسنا قذيفة هاون. كذلك فإنّ الحياة مملة جداً، إذ إنّ الكهرباء مقطوعة ولا اتصالات ميسّرة للتواصل مع الخارج، فيما لقاءاتنا كلها لا بدّ من أن تكون خلال النهار. بعد غروب الشمس، لا يفضّل القيام بأية حركة".
وتلفت أم محمد إلى "حساسيات بين مكوّنات المدينة المحاصرة، على خلفية الضيق الاقتصادي وحصص المساعدات الإنسانية. لكن في نهاية الأمر، الجميع ينجح في تجاوزها". وتتابع أنّ "ثمّة خلافات داخل العائلة الواحدة، تتزايد حدّتها أو وتيرتها كانعكاس طبيعي لضيق العيش والحصار المطبق. وعادة ما تكون بين الزوج وزوجته أو بين الوالدَين وأبنائهما. وثمّة خشية من أن تهدّد تلك الخلافات بنية الأسرة الواحدة".
إلى ذلك، تتحدّث أم محمد عن "مجموعات من الناشطات والناشطين تحاول ردم الهوّة، التي خلّفها الحصار، عبر مبادرات تعليمية ونشاطات دعم نفسي للأطفال والنساء بالإضافة إلى أخرى ترفيهية للصغار". لكنّها تشدّد على أنّ "كلّ ذلك غير كافٍ في ظل الاحتياجات الموجودة على الأرض، وبسبب الخبرات المحدودة والمتواضعة وغياب الدعم المادي". وتقول: "نريد حقنا في الغذاء والصحة والتعليم. نريد ممرّات آمنة للمدنيين والحالات الصحية الحرجة. لا نريد أن نهجّر من أرضنا. نريد تسوية مع النظام (السوري) تحفظ لنا كرامتنا وسلامتنا وتضمن احتفاظنا بأرضنا". وتدعو "المنظمات الدولية إلى أداء دورها في فكّ الحصار عن مضايا وبقين والزبداني وتأمين مستلزمات العيش للمحاصرين".
تجدر الإشارة إلى أنّ مضايا وبقين والزبداني محاصرة بشكل مطبق منذ أكثر من عام، على خلفيّة ربط مصيرها بمصير بلدتَي الفوعة وكفريا في ريف إدلب المحاصرتَين من قبل "جيش الفتح".
المصدر: العربي الجديد - ريان محمد
↧