القصة أخطر من حلب على رغم فظاعة ما يجري فيها وحولها. والقصة أكبر من الموصل على رغم أهميتها بالنسبة إلى المكون الذي تنتمي إليه والتوازنات الإيرانية - التركية على أرض العراق المريض. القصة أكبر من تفكك دولة هنا وهناك. ومن النزاع السني - الشيعي الفادح الخطورة. ومن أمواج القتلى واللاجئين. القصة أكبر من «داعش». إننا في بدايات مبارزة روسية - غربية تعني أمن العالم واستقراره واقتصاده. ولا جدوى من عقد المقارنات مع أزمات شهدها عالم المعسكرين وبينها أزمة الصواريخ الكوبية لأننا نعيش اليوم في عالم مختلف تماماً.
لن نتسرع في إصدار الأحكام والترويج لسيناريوات مثيرة. سنتوقف عند ما قاله رجل مسؤول لم يعرف بالتسرع أو التهور أو التشدد. إنه وزير الخارجية الألماني فرانك فالتر شتاينماير. قال: «من الوهم الاعتقاد بأننا أمام الحرب الباردة السابقة. الفترة الحالية مختلفة، أكثر خطورة».
كلام ألماني آخر لولفغانغ أشنجر الذي عمل وسيطاً لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا في الأزمة الأوكرانية. قال: «إن خطر المواجهة العسكرية كبير. هذا الخطر لم يكن بمثل هذا الحجم منذ عقود والثقة بين الغرب والشرق لم تكن بتاتاً ضعيفة إلى هذا الحد».
ما شهدته قاعة مجلس الأمن خلال مناقشة مشروعي القرارين الفرنسي والروسي في شأن حلب يعطي التصريحات الألمانية قيمة إضافية. ليس بسيطاً أن توجه دول غربية كبرى إلى روسيا اتهامات بارتكاب «جرائم حرب» في حلب. وأن ترد روسيا بأن المشروع الفرنسي يمكن أن يوفر حماية للإرهابيين والتكفيريين.
لم تسمح روسيا برسم خطوط حمر لتحركها في حلب وسورية. قطع مندوبها فيتالي تشوركين عنق المشروع الفرنسي بسيف الفيتو. رفع تشوركين أصبعه وأسقط المحاولة الغربية. تذكرت الدول الغربية، أنها المرة الخامسة التي يرفع فيها تشوركين أصبعه ضد مشروع قرار يتعلق بسورية. الأولى كانت باكراً في 2011. وأصبع تشوركين هو أصبع بوتين الذي يهدد الغرب متظاهراً بأنه ينصحه أو يكتفي بانتقاده.
ارتفاع أصبع بوتين للمرة الخامسة دفع الدول الغربية إلى إعادة فتح دفاتره. حين تدخل بوتين عسكرياً في سورية لم يثر الغرب. ولعل بعض عواصمه فضلت رؤية سورية روسية على رؤية سورية إيرانية أو «داعشية». وهناك من توهم أن الرجل سينقذ النظام من السقوط ليرغمه في اليوم التالي على السير في حل سياسي استناداً إلى بيان جنيف أو ما يشبهه.
كان خيار أوباما في سورية واضحاً وقاطعاً. لن ينزلق إلى المستنقع السوري. اعتبر أن سورية لا تستحق دم الأميركيين وأموالهم وتحمل مسؤولية إعادة إعمارها لاحقاً. اغتنم فرصة تنازل النظام السوري عن ترسانته الكيماوية وابتعد. اليوم يشعر الغرب بأن الخدعة الروسية كانت كبيرة.
يفتح الغرب اليوم دفاتر السياسة «العدوانية» لبوتين. من القرم إلى أوكرانيا إلى سورية. من الطائرة الماليزية إلى قيام القاذفات الروسية باستفزاز دول أطلسية. وصل الخوف من روسيا إلى حد القلق من اختراقات قراصنتها للتأثير في سير الانتخابات الرئاسية في أميركا.
واضح أن الغرب يعيد حساباته. في دوائر القرار من يعتقد أن ارتفاع أصبع بوتين في مجلس الأمن كان يرمي إلى إطالة الحرب السورية بانتظار استكمال ظروف التدخل العسكري. وأن بوتين يتسلق أهرامات الجثث السورية بحثاً عن انتصار لا عن حل. وأنه يريد إطالة موسم إذلال الغرب وإغراق أوروبا باللاجئين وإرباك الاتحاد الأوروبي ومعه الأطلسي. يريد أيضاً أن لا يبقي أمام الرئيس الأميركي الجديد غير الاعتراف بالانتصار الروسي في سورية والقبول بتعديل جدي في موازين القوى بين «القوتين العظميين».
من هو العدو الأول للغرب بوتين أم أبو بكر البغدادي؟ يبدو السؤال غريباً لكن ما يجري يُجيز طرحه.
ما فعله البغدادي شديد الخطورة. هبط من كهوف التاريخ واستولى على الموصل. ألغى الحدود السورية - العراقية وأطلق انقلاباً مدوياً على اتفاقات سايكس - بيكو. أرسل مفاعل «داعش» إشعاعاته في كل الاتجاهات. عبرت سمومه حدود الدول والقارات. ارتكابات صارخة. وضربات فظة. وخلايا نائمة. وذئاب منفردة. ألهب العلاقات السنية - الشيعية. وسكب الزيت على نار الأقليات وجروح التعايش.
أقلق البغدادي العالم واحتل سريعاً موقع العدو الأول. في العواصم الغربية اليوم من يسأل أيهما أخطر بوتين أم البغدادي. وظف بوتين إطلالة البغدادي واستيلاء المتشددين على الثورة السورية لإطلاق برنامج الثأر الكبير. الثأر من الغرب الذي دمر الاتحاد السوفياتي من دون إطلاق رصاصة. والثأر من حلف الأطلسي الذي يحاول تطويق روسيا وإذلال صورتها وسلاحها. إذا استنتج الغرب أن موعد تقليم أظافر القيصر قد حان فإن سورية مرشحة لما هو أدهى ومعها المنطقة أيضاً.
↧