مواقف وقصص كثيرة صادفتني خلالَ مسيرتي المهنية كمحام في السنوات العشرين الماضية، بعضها مثير، وبعضها الآخر صادم، وهي تلّخص بمجملها مدى الانحدار الذى وصل إليه القضاء في سوريا، بعد أن كان محلّ تقدير وإعجاب من أغلبية السوريين بمختلف مستوياتهم وانتماءاتهم، قبل أن تتحوّل المؤسسة القضائية بعد استيلاء البعث على السلطة من مؤسسة مستقلّة هدفها حماية حقوق الناس وحرياتهم وتحقيق العدالة، إلى مجرّد مؤسسة شكلية مرتهنة لمشيئة النظام الحاكم في سوريا.
الكثير من الناس كانوا يعبّرون عن انزعاجهم من تدهور وضع القضاء ويطالبون بإصلاحه، لا سيما في السنوات الأخيرة التي سبقت ثورة السوريين في آذار 2011، فأينما توّجهنا في البيوت والعمل، وفي المؤتمرات ووسائل الإعلام، تتناقل ألسنة الناس الكثير عمّا يجري داخل أروقة المحاكم وخارجها من حكايا ومواقف تنال من هيبة القضاة والقضاء، الذي خسر الكثير في نظر المواطنين من دوره، بعد أن أصبح موضع اتهام بدل أن يكون هو القادر على اتهام الآخرين، وقد يكون ذلك عن قصد، أو غير قصد.
لقد تغيّرت نظرة الناس تجاه الكثير من القضاة إن لم يكن معظمهم، فالقاضي الذي كان يدخل مكاناً عاماً ويستقبله الناس بكلّ احترام، باتوا اليوم يتجاهلونه في غالب الأحيان، بسبب شعور الناس المتنامي بطغيان الظلم، وعجز القضاء عن تحقيق العدالة، رغم أنّه في الأصل هو المكلّف بالسهر على احترام حريات الناس وحماية حقوقهم. ولا نبالغ القول أنّ الوضع المزري الذي يعانيه القضاء والقضاة، قد زاد من نقمة الناس على سياسة السلطة الحاكمة، وزاد أيضاً من حدّة التوترات المجتمعية كنتيجة طبيعية لغياب العدالة وانتشار الفساد والمظالم، وشكلّ بالتالي حافزاً إضافياً في دفع الناس للثورة ضد الظلم والقهر والاستبداد.
أشخاصٌ كثر اُوقِفوا على الشبهة، بعضهم أُوقف كرهينة لإجبار الابن أو الزوج على تسليم أنفسهم، وهو تصرّف لا يختلف عن سلوك العصابات وقطاع الطرق، إلا أنّ الكثير من القضاة لا يكلّفون أنفسهم عناء البحث في صحة الاتهام من عدمه، بل يكتفون بتبني الاتهامات الأمنية، والأكثر إيلاماً هو أن يُحاكم الناس على النيّة، وعلى مجرّد التفكير، هذا ما حدث بالضبط مع ضابط مجنّد برتبة ملازم، اُتهم بأنّه كان ينوي الانشقاق عن الجيش.
في صيف عام 2013 وبينما كنتُ أطّلعُ على قرارٍ في محكمة الإرهاب، اقترب منّي الموظف وأخذ يهمس في أذني قائلاً: “هل تريد أن تضحك يا أستاذ؟ قلتُ له: وهل هناك ما يُضحكُ في هذه المحكمة؟
قالَ لي: “إذاً أقرأ هنا وستضحك كثيراً، تصفحت الورقة بسرعة، أصابتني الدهشة، ولا أخفي إنّني ضَحِكْتُ عندما قرأتُ عبارة: “والله يا سيدي، أنا قلت للأمن أشكركم على اعتقالي قبل أن أفكر بالانشقاق”، وأثارت تلك العبارة فضولي في الاطلاع على تفاصيل القضية.
باختصار، مما ورد في الضبط الأمني، أنّ الضابط المتهم كان يتحيّن الفرصة للهروب من القطعة للالتحاق بالمجموعات الإرهابية، وأثناء محاولته الهرب ليلاً، شعر أنّ أحداً شاهده، فتراجع عن عملية الهروب، متظاهراً أنّه يقوم بجولة تفقدية. ويتابع منظمو الضبط الأمني سردهم “ولدى سؤال المتهم عن محاولته الهرب من القطعة العسكرية، نفى أن يكون فعل ذلك، مؤكداً أنّه لم يفكر قط في الانشقاق”، إلا أنّ عناصر الأمن لم يقتنعوا بكلامه، بل أجبروه على الاعتراف بأفعال لم يرتكبها، فقد ورد في الضبط الأمني على لسان الضابط: “نعم كنتُ أحاول الهرب تلك الليلة للالتحاق بعناصر الجيش الحر، ولكن عندما شعرتُ أنّ أحداً ما اكتشفَ أمري، تظاهرتُ بأنني كنت أقوم بجولة تفقدية حول القطعة” وختم المحقق الضبط بعبارة “تُليتْ عليه إفادته، ووقعَ عليها وبصم”. وأُحيلَ بعد أربعة أشهر إلى محكمة الإرهاب.
وعندما سأله القاضي عن تهمة الانشقاق عن “الجيش العربي السوري” فيما إذا كانت صحيحة أم لا، نفى الضابط تلك الاتهامات نفياً قاطعاً، فقال له القاضي “هناك من شاهدك، وأنت تحاول الهرب، وعندما انكشف أمرك، تراجعتَ وادعيتَ أنك كنتَ في جولة تفقدية”، أجاب الضابط: “يا سيدي الله وكيلك لم يحصل ذلك، وأنا مستعد لمواجهة الشاهد، كنتُ في مكتبي عندما اعتقلوني، وقلتُ للأمن أشكركم لأنكم اعتقلتموني قبل أنْ أفكر بالانشقاق، لكنهم لم يسجلوا ذلك في الضبط”، ضَحِكَ القاضي قائلاً: “يعني كنتْ عم تفكر بالانشقاق”، فأجاب: “لا والله يا سيدي”، قاطعه القاضي بعصبية: “إذاً لماذا شكرت الأمن على توقيفك، لو لم تكنْ تفكّر بالانشقاق أساساً، أنت موقوف”، وكبسَ الجرس قائلاً للشرطة: خذوه.
ويتبين من أوراق القضية أنّ القاضي خاطب فرع الأمن بعدّة كتب طالباً إحضار الشاهد المجنّد للاستماع إلى شهادته، لكنّ طلبه لم يلقَ أيّة استجابة، فما كان من القاضي إلاّ أن أصدر قراره الذي جاء فيه “نحن قاضي التحقيق (..) لدى محكمة قضايا الإرهاب، وبعد الاطلاع على ادّعاء النيابة العامة بحق المدعى عليه (..)، وعلى ضبط فرع التحقيق التابع لشعبة المخابرات العسكرية المتضمّـن كافة التحقيقات الأولية الجارية مع المذكور. وبناء على التحقيقات الجارية مع المدعى عليه أمامنا (التحقيق هنا اقتصر على استجوابه فقط) وعلى كافة أوراق الدعوى والتحقيقات الجارية فيها وكافة تفرعاته (لا يوجد في ملف القضية سوى الضبط الأمني المؤلف من صفحتين وادعاء النيابة ومحضر الاستجواب المؤلف من صفحتين فقط)، وحيث أنّه من الثابت بأوراق هذه القضية، والتي بلغت من الثبوت حدّ الكفاية لترجيح الاتهام والإدانة…. وإنّ انكار المدّعى عليه أمامنا، ما هو إلا وسيلة للتهرّب والتملّص من المسؤولية المترتبة على فعله… لذلك أقرّر: اتهام المدعى عليه (..) بجناية الشروع التام بالفرار من الخدمة العسكرية بهدف ارتكاب أعمال إرهابية ولزوم محاكمته أمام محكمة جنايات قضايا الإرهاب”.
لم يتثنَّ لي متابعة هذه الدعوى، لكنني سمعتُ لاحقاً أنه أطلق سراحه، بعد شمول جرمه بقانون عفوٍ صدرَ في 10/6/2014. وهكذا بقي يُحاكم أكثر من سنة أمام قضاة لم يجدوا أيَّ حرجٍ في استمرار توقيفه على اتهام لا يُسندهُ أيُّ دليلٍ إلاَّ في مخيّلتهم، ولا يمكنْ أن يقبلهُ عَقلٌ ولا منطق.
ومن هنا تأتي أهمية الدعوة إلى المحافظة على استقلال القضاء وحياده، على اعتبار أنّ دوره لم يعد يقتصر على معالجة المسائل القانونية البحتة وحسب (كحل النزاعات وإيقاع العقاب بمرتكبي الجرائم أو تقرير البراءة)، بل أصبح دوره يمثل عاملاً مهماً وأساسياً في حفظ الاستقرار والسلم الاجتماعي وامتصاص التوّترات المجتمعية التي يمكن أن تحدث نتيجة عدم إيجاد حلول جدّية للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية، ولاسيما مشكلة الفساد والتضييق على حريات الناس.
لهذا لم يكن عبثاً في الماضي السحيق أن اتخذ الفراعنة من القاضي إلهاً، وكما قال الفيلسوف والمفكر الفرنسي، مونتسكيو: “الحرية تنعدم إن لم تكن سلطة القضاء منفصلة عن سلطة التشريع، أما إذا كانت السلطة القضائية متحدة مع السلطة التنفيذية، فإنّ القاضي يكون طاغياً”.
ميشال شماس: حكاية ما انحكت
↧