رفض البنك القاهري أن يسمح لعميله بشراء ما يزيد عن 500 دولار أميركي، واشترط البنك أيضاً أن يقدم العميل صورة من جواز سفره، وتأشيرته الأوروبية. وفي النهاية، وبعد "الموافقة" على عملية تبديل العملة البسيطة هذه، كتب موظف البنك بخط يده على جواز العميل بيانات العملية، ليس للتوثيق، بل ليمنع العميل من تكرار تبديل العملية قبل مرور شهور. خارج البنك، تم إخبار العميل بأنه كان محظوظاً. إذ عادة، لا تسمح البنوك هذه الأيام لعملائها بشراء ما يزيد عن 200 أو 300 دولار، وأحياناً أقل من ذلك، وفي الخارج أيضاً، على امتداد الشارع، كانت شركات الصرافة خاوية من الناس ومن العملة الصعبة. وفي الخارج كذلك، يتناهى إلى الماشي همسات من أشخاص مجهولين وقفوا على النواصي وفي مداخل الممرات، يسألون المارة إن كان يريدون تبديل العملة، بأسعار السوق السوداء بالطبع. وليست السطور السابقة سوى ملمح بسيط مما يسمى مجازاً في مصر "أزمة الدولار"، بينما هي في حقيقة الحال أزمة الجنيه المصري، الذي انخفضت قيمته في ظل تمسك الحكومة بسعر وهميّ مرتفع مقابل الدولار تسميّه السعر الرسمي. ولأن الاقتصاد الحر لا يمكن التدخل فيه على هذا النحو الغاشم، فقد أدى هذا التدخل وهذا التثبيت للسعر الوهمي، إلى اختفاء الدولار من السوق المشروعة، وازدهار تجارته السوداء. ولأن البنوك لم تعد قادرة على توفير العملة الصعبة لعملائها، التجار أو المستثمرين أو حتى "المسافرين"، فقد اضطر كثير من هؤلاء إلى تدبير احتياجاتهم من العملة من السوق السوداء. وكلما زاد الطلب، ارتفع- بالطبع- سعر الدولار مقابل الجنيه، وكلما زاد التشديد الأمني والقانوني، كلما ارتفع السعر الأسود، نتيجة ارتفاع المخاطر. غير أن أزمة "الدولار- الجنيه" لا تنعكس بالطبع على سوق العملة فحسب، بل في ارتفاع أسعار السلع، وصولاً إلى اختفاء السلع نفسها، نتيجة عجز المستوردين عن تدبير العملة اللازمة للاستيراد. وبينما انتظر المصريون تحقيق وعود وأحلام "أمّ الدنيا"، وجدوا أنفسهم يعانون لتدبير "السكَّر" الذي اختفى من الأسواق، حتى وضعت المحال التجارية الكبيرة لافتات تمنع بيع أكثر من كيسَي سُكّر لكل مشترٍ، الأمر الذي ذكّرهم بأيام الحروب، وكانوا قد ظنوا أنهم اختاروا السلام من أجل الرخاء، لا من أجل أن يعانوا في الحصول على السّكر بعد أربعين عاماً من " آخر الحروب"، حرب أكتوبر التي تمر ذكراها هذه الأيام. وكان هذا حين علّق الرئيس السيسي، الخميس 13 أكتوبر، على أزمة السكّر ومثيلاتها، قائلاً للمصريين: "عايزين استقلال حقيقي يا مصريين؟.. ماتاكلوش وما تناموش". وفي الواقع ليست تلك الاشتراطات جديدة على الرئيس، فمع توليه الرئاسة قبل حوالي العامين، طالب المصريين "بألا يناموا" من أجل "بناء البلد". وإذا كانت عبارته آنذاك فُهمت كمجاز تقليدي، على غرار "من طلب العلا سهر الليالي"، فإن الطلب الجديد "ما تاكلوش" هو حقاً غريب من نوعه، حتى وإن بدا للحظة شبه استعارة ناصرية. إذ طالب جمال عبد الناصر يوماً ما المصريين بأن "يقللوا اللحمة من أربعة أيام في الأسبوع إلى ثلاثة أيام، والشاي والقهوة من سبعة أيام إلى خمسة أو أربعة أيام"، وإلا "نفقد استقلالنا خالص"، يقول عبد الناصر في الخطاب نفسه الذي ردّ فيه على السفير الأميركي الذي أراد التحكم في "السلوك المصري" مقابل صرف المعونة. والأهم هنا من أن عبد الناصر لم يطالب المصريين بالتوقف عن الأكل، بل بتقليل بعض الاستهلاك، الأهم أنه وضع ذلك في سياق واضح، هو رفض تدخل أميركي محدد في شأن بعينه، وكان هذا التدخل وتلك المواجهة، جزءاً من مواجهة أكبر، معروفة أبعادها في العصر الناصري. وكانت عبارة "نبني بلدنا"، ذات ملامح واضحة وإنجازات يحفظها إلى اليوم كل طفل. أما "ما تاكلوش"، في خطاب السيسي، فليس معروفاً سياقها ولا طموحها. وقد جاءت بعدما اختفى السكّر بالفعل، لا قبل اختفائه. ثم، حتى لو قرر المصريّ ألا يأكل استجابة لطلب أو اشتراط الرئيس، فمن أجل مَن/ماذا يجوع؟ من أجل مصر؟ أم لأجل قرض البنك الدولي؟ وذلك بغض النظر عن أن الجائع لا يبني وطناً.
المصدر: المدن - محمد خير
↧