نشرت صحيفة هآرتس الإسرائيلية تقريراً عن "غرترود بيل"، البريطانية التي كان لها دور في رسم خريطة العراق الحديثة.
تقول عنها: كانت تركب الجمال بجوار تشرشل ولورنس، وشكّكت في الهدف من وعد بلفور،الآن، بعد 90 عاماً على وفاتها، عادت "غيرترود بيل" مرة أخرى إلى دائرة الضوء.
في مساء يوم 11 يوليو/تموز 1926، تناولت غيرترود بيل جرعة زائدة من الحبوب المنومة والمهدئات في منزلها ببغداد، وغطت في سبات عميق.
أُكتشفت جثتها هامدة في وقت مبكر من صباح اليوم التالي، قبل يومين من عيد ميلادها الثامن والخمسين.
تحدث أصدقاؤها لاحقاً عن إصابتها باكتئابٍ حاد ومشاكل صحية، تفاقمت بسبب الحرارة العالية للصيف في الشرق الأوسط.
نعَتها إحدى الصحف المحلية لكونها صديقة للكثير من العراقيين، ولكن قبل كل شيء صديقة للعراق.
كانت بيل شخصية متعددة الجوانب، مؤرخة، وعالمة آثار، دبلوماسية، جاسوسة، متسلقة جبال ومغامرة جريئة، وكانت تعرف باسم "أنثى لورنس العرب"، ومع ذلك، فإن معظم شهرتها ترجع لمساهمتها في وضع النظام السياسي الجديد في الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الأولى.
فقد ساعدت بمعرفتها وخبرتها المسؤولين البريطانيين في رسم حدود العراق، ووضع فيصل الأول على رأس المملكة الجديدة.
ومن المفارقة أن يعاد اكتشاف شخصية بيل مع انهيار النظام السياسي الذي كانت لها يد في تشكيله. هذه الشخصية المعقدة -الاستثنائية على الساحة العربية التي يغلب عليها الطابع الذكوري- تصور الآن في السير الذاتية، والأفلام ( "مثل" ملكة الصحراء "، بطولة نيكول كيدمان) وحتى القصص المصورة.
منذ وقت ليس ببعيد، تمت إضافة فيلم وثائقي لتلك القائمة. كان فيلم "رسائل من بغداد" نتيجة أبحاث مكثفة شملت زيارات إلى 25 دار محفوظات في جميع أنحاء العالم.
الفيلم الذي سيعرض في مهرجان حيفا السينمائي يوم 20 أكتوبر/تشرين الأول، ُيظهِر إحدى أكثر الصور إثارة للاهتمام لبيل، صورت في عام 1921 عند سفح أبو الهول في الجيزة، وكان السبب في الصورة مؤتمر القاهرة، حيث ناقش البريطانيون - الذين تولوا ولاية العراق وفلسطين بعد الحرب العالمية الأولى- عدم الاستقرار في الشرق الأوسط.
بدت بيل، التي ظهرت على أحد الجمال، مسرورة كما يليق بشخص شارك لتوه في ولادة دولة جديدة، وظهر بجوارها ونستون تشرشل، الذي كان وزير الاستعمار البريطاني في ذلك الوقت، على جانبها الآخر وقف توماس إدوارد لورانس، الضابط البريطاني المعروف باسم لورانس العرب.
يقول المخرج الأمريكي زيفا أولباوم في بيان حول الفيلم الوثائقي "لدهشتنا علمنا أن [بيل].. كانت أقوى امرأة في الإمبراطورية البريطانية في عهدها، ولكنها كانت في طي النسيان منذ فترة".
اكتشاف الكنز
كان أول من أعاد "اكتشاف" بيل الدكتورة ليورا لوكيتز، وهي مؤرخة إسرائيلية. تقول لصحيفة هآرتس "في المرة الأولى التي رأيت فيها كمية الوثائق التي تركتها، اكتشفت الكنز الدفين"، وأضافت "تساءلت كيف أن أحداً لم يكتب شيئاً جاداً عن امرأة مثل تلك، التي تركت مجموعة هائلة من الأدلة على مساهمتها الكبيرة في تشكيل منطقة الشرق الأوسط، خاصة العراق الحديث".
في العام 2006، نشرت لوكيتز سيرة غيرترود بيل الذاتية (باللغة الإنجليزية): "مغامرة في الشرق الأوسط: غيرترود بيل وتشكيل العراق الحديث."
لماذا ظلت بيل منسية لعقود طويلة؟ تقول لوكيتز "معظم المؤرخين الكبار من الرجال، ولكونها امرأة، لم يأخذوها على محمل الجد"، وتضيف أن ذلك يرجع جزئياً لأسلوب كتابة بيل، الذي كان شخصياً إلى حد كبير، كما أن مذكراتها شملت أيضاً "تقارير عن الفساتين واللقاءات الاجتماعية".
ويقول البروفيسور عوفرا بنجيو، وهو خبير في تاريخ العراق الحديث في جامعة تل أبيب "كانت امرأة غير عادية، جاءت إلى المنطقة بمفردها، ونجحت في إقامة علاقات قوية مع العديد من الشخصيات العامة في العراق".على الرغم من كونها امرأة، نجحت في توطيد علاقتها مع شيوخ وزعماء القبائل المحلية".
قالت عالمة الآثار الدكتورة لمياء الكيلاني وير لصحيفة "التلغراف" البريطانية في العام 2014 أن بيل "كانت من مساندي الاستعمار، ولكنها كانت تبدو مخلصة تماماً للعراق".
فمن غير المرجح أن بيل كانت لتحافظ على تلك الابتسامة الزاهية على وجهها إذا ما شهدت ما يحدث للدول القومية العربية التي ساهمت مع زملائها في تشكيلها.
تقول لوكيتز "كانت بيل ستصاب بخيبة أمل بسبب ما يحدث في الشرق الأوسط الآن"، وأضافت "لكن ليس ذنبها، ينبغي أن يبنى الحكم عليها في سياق عصرها، وليس في ضوء الرؤى في القرن الحادي والعشرين".
يضيف بنجيو: "كانت رؤيتها لإقامة عراق واحد موحد في ظل حكومة مناسبة، ولكن ما تبقى منه كان خليطاً لم يتمكن من خلق هوية وطنية واحدة يشترك فيها جميع السكان. في الواقع، مع مرور الوقت، كان يتفكك بخطى متسارعة".
من الغرف الوثيرة إلى الصحراء
كيف انتقلت سيدة بريطانية من عائلة ثرية من الغرف الضيافة الفاخرة في لندن إلى الشرق الأوسط؟
ولدت غيرترود في العام 1868 لعائلة من الصناعيين، وفي العام 1886، أصبحت أول امرأة تحصل على شهادة من الدرجة الأولى مرتبة الشرف في التاريخ في جامعة أكسفورد، ومع ذلك، سرعان ما أدارت ظهرها لحياة الراحة والروتين، وفضلت السفر بعيداً عن الوطن.
وتضمنت قائمة وجهاتها اليابان والولايات المتحدة وأميركا الجنوبية، ولكن زيارة إلى باريس في العام 1892 كانت أول نافذة لها على الشرق.
وفي وقت لاحق، زارت فلسطين ودمشق وبغداد، ودرست الفارسية والعربية والتركية، فُتِنَت بالمواقع الصحراوية والأثرية، فالتقطت صوراً لها بكاميرتها للأجيال القادمة.
في ذروة نشاطها، وفي وقت قريب من الحرب العالمية الأولى، انتشرت قصص عنها وعن الانطباع الذي تركته لدى جميع من التَقَت بهم -من قيادات الجيش البريطاني إلى زعماء القبائل.
حتى بعد مرور 90 عاماً على وفاتها، لا تزال شخصية بيل لغزاً مع العديد من التناقضات في شخصيتها، فالبعض يعتبرها رائدة نسوية، ولكنها لم تتحدَّ الهيكل الأبوي للمجتمع، حتى أنها أبدت إزدراء تجاه النساء اللواتي حاربن من أجل حق الانتخاب.
تقول لوكيتز "كانت مثالاً للمدافعين عن حقوق النساء، ولكن يمكنك القول أنها كانت كذلك لنفسها فقط، فقد نسيت أن الطبقة الدنيا من النساء لم يكن لديها من الظروف ما يؤهلها لتحقيق ما حققته".
في الأفلام والسير الذاتية، تصور بيل على أنها ذات لياقة بدنية ممتازة، والتي مكنتها من ركوب الجمال لساعات طويلة في حرارة الصحراء، ومع ذلك، لم تتخل عن عاداتها الأرستقراطية، فكانت تحضر معها حوض الاستحمام، والأطباق وثياب السهرة أينما ذهبت، كان لديها أيضاً العشرات من أزواج الأحذية في مجموعتها.
في العام 1916، تقلدت منصباً رسمياً في السلك الدبلوماسي البريطاني، وذلك بفضل معرفتها بجغرافيا الشرق الأوسط وشعوب المنطقة وتاريخها.
وكمثال على ذلك، أحد التقارير التي كتبتها بيل إلى رؤسائها في العام 1917: تقول "الطبيعة البشرية في العالم العربي كما هو الحال في أوروبا، مشاكسة، طموحة وطامعة، مخلصة بعض الأحيان ولكن كثيراً ما تكون غادرة، مستنيرة في بعض الأحيان ولكن قلقة دائماً -.. قد يكون من المتوقع أن تتغير وتتبدل، كما في التحالفات التي كانت موجودة في تاريخ العلاقات بين مختلف الدول التي تتألف منها أوروبا".
في أوراق بيل، عثر على رأيها بشأن خطط إنشاء وطن قومي لليهود، والذي أعربت عنه لعائلتها بعد وعد بلفور. "أنا أكره وعد السيد بلفور الصهيوني فيما يتعلق بسوريا الكبرى، في اعتقادي، لا يمكن تنفيذه، البلاد غير ملائمة تماماً لليهود؛ إنها أرض فقيرة، غير قادرة على التطور، وثلثا سكانها من "المحمديين" العرب الذين ينظرون لليهود بازدراء، في رأيي إنه مخطط اصطناعي بالكامل، مجرد من كل ما يتعلق بالحقائق، وأتمنى أن لا يحالفه النجاح".
في سنواتها الأخيرة، تولت مسؤولية الآثار نيابة عن الحكومة العراقية، وعملت على تأسيس المتحف الأثري ببغداد (المعروف الآن باسم المتحف الوطني العراقي). حاربت لصوص الآثار والتجار الذين أرادوا تهريب كنوز الماضي بكل قوة.
في العام 2003، نُهب المتحف، ومع العديد من الكنوز الأخرى، اختفى تمثال لبيل مع لافتة كتب عليها "غيرترود بيل التي سيذكرها العرب دائماً بالمودة".
-هذا الموضوع مترجم بتصرف عن صحيفة هآرتسالإسرائيلية.
المصدر: هافينغتون بوست عربي -
↧