مر على سيطرة ما يعرف بـ «تنظيم الدولة الإسلامية»على مدينة الموصل مركز محافظة نينوى 28 شهرا. نينوى ذات الخصوصية التاريخية، والمحافظة التي تضم كل الفسيفساء العراقي الأثني والديني مع أنها تعد معقل العرب السنة في العراق. الاحتلال كان مدويا حيث أسقط ثاني أكبر مدن العراق بيد التنظيم الإرهابي، سقوط المدينة أثار موجة من الاستنكار والسخط عالميا والاستغراب مصدرها مقدرة مقاتلين تعدادهم بضع مئات من المسلحين فرت من مواجهتهم ثلاث فرق من الجيش العراقي وفرقة من الشرطة الاتحادية، مسلحة بأحدث الأسلحة الأمريكية الثقيلة والمتوسطة، وكانت المدينة ولمدة عام قبل هذه الأحداث تمور باحتجاجات واعتصامات مناهضة لحكومة بغداد وتتهمها بالنهج الطائفي والعمالة لإيرن، لذلك أعلنت جهات عدة كانت تعارض حكومة بغداد وتشترك في ساحات الاعتصام ان الموصل تحررت من قبضة (حكومة المالكي الطائفية) كما وصفتها، وان من سيطر على المدينة هم (ثوار العشائر) في توصيف لخليط من القوى، منها ضباط في الجيش العراقي السابق وبعض التنظيمات المسلحة مثل رجال جيش الطريقة النقشبندية وجيش محمد وجيش التوحيد وتنظيم «الدولة» وبعض مقاتلي العشائر السنية. وكان الفعل الأول للمهاجمين الذين سيطروا على المدينة يوم 10 حزيران/يونيو 2014 هو كسر سجن بادوش المركزي واطلاق سراح العشرات من المتهمين بالإرهاب والذين يقضون أحكاما مختلفة بالسجن.
لم يطل أمد شهر العسل بين معارضي الحكومة المركزية ومقاتلي التنظيم الإرهابي، إذ سرعان ما فرض المقاتلون الأجانب سيطرتهم وتم اعلان «دولة الخلافة» في الموصل ومبايعة ابو بكر البغدادي أميرا للمؤمنين وخليفة يجب مبايعته، واعلن الأمر بشكل رسمي في خطاب دراماتيكي متلفز في الخامس من تموز/يوليو، ظهر فيه لأول مرة البغدادي وهو يخطب في جامع النوري في قلب الموصل، وابتدأ التنظيم بأخذ «البيعة» من سكان المدينة والمدن الأخرى التي سقطت بيده لخليفته المزعوم، وصاحب الأمر تطهير عرقي عنيف، إذ تم تهجير وقتل وسبي الأقليات مثل المسيحيين والإيزيديين والشبك والشيعة، وتفريغ المدينة إلا من الســـكان الــعـرب الــســنة الــذين (اجبروا أو اختاروا مبايعة الدولة والخليفة)، وابتدأت وفود العشائر تجلب لأداء بيعتها للبغدادي.
انطلاق عملية استعادة الموصل
بعد نجاحات واسعة حققتها القوات العسكرية العراقية تمت استعادة أغلب المدن التي سيطر عليها التنظيم بدءا من حزام بغداد مرورا بديالى وصلاح الدين والرمادي والفلوجة، ابتدأت عمليات الاقتراب من مركز محافظة نينوى، فتم استعادة بلدات استراتيجية الأسابيع الماضية مثل القيارة وقاعدتها الجوية ومحيط الشرقاط والتوجه شمالا، وبعد إبرام التنسيق بين الحكومة المركزية وحكومة إقليم كردستان، تم توزيع مهمات القتال لتصبح مدينة الموصل محاصرة من ثلاث جهات مع عدم احكام طوق الحصار من جهة الغرب التي ما تزال مفتوحة باتجاه سوريا وعمقها في مدينة الرقة التي تمثل عاصمة ما يعرف بـ «الدولة الإسلامية». ويشترك في الاستعدادات للمعركة الجيش العراقي وجهاز مكافحة الإرهاب والشرطة الاتحادية والبيشمركه الكردية ومقاتلو الحشد الشعبي، مع تواجد لمقاتلي حشد نينوى الذي يقوده المحافظ السابق أثيل النجيفي مع بعض القوات التركية في معسكر بعشيقة (12 كم شمال شرق الموصل) وباسناد من طيران التحالف الذي نفذ ضربات انهكت دفاعات تنظيم «الدولة» قبل بدء المعركة.
وسيرا على النهج الذي أصبح نمطيا في كل المعارك السابقة انطلقت الأصوات المحذرة من مجازر سيرتكبها مقاتلو الحشد الشعبي بحق السكان السنة في المدينة الذين وصفتهم هذه الأصوات المحذرة بانهم باتوا بين مطرقة الميليشيات الطائفية وسندان تنظيم «الدولة». وبالرغم من كل التطمينات التي أطلقها القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، في ان من سيدخل المدينة هم الجيش العراقي والشرطة الاتحادية فقط، في إشارة لعدم مشاركة البيشمركه أو الحشد الشعبي أو حشد نينوى في اقتحام المدينة، إلا ان الأصوات الرافضة أشارت إلى ان فصائل الحشد التي كانت تحاصر الفلوجة والرمادي مارست انتهاكات بحق من خرج من السكان المدنيين هربا من الحرب عبر اعتقالهم والتحقيق معهم وتغييب العشرات منهم، في إشارة إلى حوادث أشارت لها بعض المنظمات الحقوقية والدولية مثل «هيومن رايتس ووتش». بدورها ردت الحكومة العراقية ان أعلى مستوى من الانضباط سيتم التعامل به، وعلى هذا الأساس تم استدعاء جنرالات كان لهم دور مميز في العمليات السابقة مثل الفريق عبد الوهاب الساعدي الذي كان قائدا لجهاز مكافحة الإرهاب في معارك الفلوجة والرمادي، والذي عرف عنه مهنيته وانظباطه في المعارك السابقة.
الأقليات المهجرة
وسهل نينوى وجبل سنجار
العبء الأكبر من جرائم التنظيم الإرهابي وقع على الأقليات التي كانت تعيش في محافظة نينوى من المسيحيين والشبك والإيزيديين والشيعة، وقد اشترك قسم من السكان من العرب السنة في هذه الجرائم عبر الارشاد على مجاوريهم أو المشاركة الفعلية في عمليات التهجير، وأبرز هذه الجرائم كانت في جبل سنجار حيث وقعت جريمة ضد الإنسانية بحق الإيزيديين الذين تعرض رجالهم للقتل ونساؤهم للسبي والانتهاك، لتمثل هذه الانتهاكات جرحا مفتوحا على أقصى احتمالات التوتر بعد التحرير، لذلك كان الاصرار التركي على التواجد وعدم سحب القوات، بل وكما أشار الرئيس أردوغان المطالبة بالجلوس على مائدة رسم خطط ما بعد التحرير لضمان استقرار المنطقة المحاذية لتركيا والتي لها حدود بطول 350 كم، والتأكيد على ضمان عدم اندلاع حرب طائفية بعد الخلاص من التنظيم الإرهابي.
في المقابل تسعى فصائل الحشد الشعبي لدخول مدينة تلعفر لحماية الشيعة التركمان من الانتهاكات التي يتعرضون لها، الأمر الذي كاد يشعل حربا بين فصائل الحشد والبشمركه الكردية قبل أشهر، كما ان عددا من المراقبين يشيرون إلى ان الاتفاق الذي عقد بين حكومة بغداد والإقليم والذي انطلقت العمليات العسكرية بعده تم فيه اطلاق الضوء الأخضر لحكومة الإقليم للسيطرة على منطقة سهل نينوى ذات الغالبية المسيحية التي تطالب بها حكومة كردستان باعتبارها من المناطق المتنازع عليها، ويجب ان نتذكر ان قوات البيشمركه لم تدخل منطقة وتنسحب منها أبدا، مما ينبئ باحتمالية اندلاع نزاع بهذا الشأن بعد الانتهاء من استعادة الموصل من تنظيم «الدولة».
يشير عدد من التقارير الاستخبارية إلى هروب العديد من قيادات تنظيم «الدولة» من الموصل في اتجاه الرقة قبل اقتحام القوات العراقية المدينة، وبما ان حصار المدينة لم يحكم وما يزال هنالك طريق مفتوح من جهة الغرب، فان احتمالية هروب المقاتلين وانسحابهم في اتجاه سوريا ما زال قائما، وهذا الأمر مثل قلقا إقليميا ودوليا، فالولايات المتحدة تغض البصر عن الأمر وكأنها تلقي بالمشكلة في حضن روسيا الشريك الأهم للنظام السوري، بينما الشركاء الأوروبيون يتخوفون من عودة ما يقارب 4000 مقاتل من اصول أوروبية إلى بلدانهم، والعائدون سيمثلون بؤرا إرهابية ستنشر الدمار في القارة الأوروبية كما حصل في الضربات التي شنها متشددون في عدد من المدن مثل باريس وبروكسل، أما الأتراك فإنهم يسعون لتقديم أنفسهم على انهم سيلعبون دور الدرع الواقي الذي سيمنع مرور الإرهابيين العائدين إلى أوروبا، لان الأراضي التركية تمثل الممر الوحيد لهم في رحلة العودة، مقابل منح ثقة وتعاون الدول الأوروبية مع الحكومة التركية في عدد من القضايا أبرزها عدم دعم المحاولات الكردية لإنشاء كيانات تقلق تركيا في خاصرتها الجنوبية.
وهذا ما تم تلخيصه في اجتماع باريس الذي عقد يوم 20 تشرين الأول/اكتوبر الجاري على مستوى وزراء الخارجية أو من ينوب عنهم، حيث جلس على طاولة الاجتماع كل الفرقاء محملين بكل الخلافات ووجهات النظر المتضادة ليناقشوا خريطة طريق الموصل بعد استعادتها من سيطرة تنظيم «الدولة» على مستوى الإدارة السياسية وتقديم الدعم والمشورة للحكومة العراقية. ودعا المشاركون في اجتماع باريس حول مستقبل الموصل إلى «اتفاق سياسي شامل» بين السلطات العراقية والجهات المحلية الفاعلة في الموصل. وأشادوا بتضحيات المقاتلين ضد تنظيم «الدولة» بمن فيهم فصائل الحشد الشعبي. وفي المقابل لم يتم الإعلان عقب الاجتماع عن خطوات ملموسة ومحددة، فيما ركزت فرنسا على ضرورة الإعداد لمعركة تحرير الرقة على غرار الموصل.
مقاومة ومدنيون في قبضة التنظيم
مع اقتراب القوات المسلحة العراقية من حدود مدينة الموصل، انطلقت عمليات نوعية داخل المدينة نفذها شباب موصليون لم يعلنوا عن صفة أو شكل تواجدهم، سوى انهم مقاومة أهالي المدينة للتنظيم الإرهابي. ومع وجود حوالي مليون مدني في المدينة فإن احتمالات نزوح ما يقارب 200 ألف مع بدء معركة اقتحام المدينة أمر متوقع بالنسبة للكثير من منظمات الإغاثة الدولية التي هيأت أربعة معسكرات على أطراف المدينة لتلقي الفارين من الحرب. من جانبها الحكومة العراقية لم تعلن حتى الآن عن ممرات آمنة لخروج المدنيين كما حصل في معركة الفلوجة، وطالبت المدنيين في الموصل تجنب التواجد قرب مقرات التنظيم لأنها ستكون أهدافا عسكرية، ومحاولة البقاء في البيوت كي لا يتعرضوا لنيران قناصته وحقول ألغامهم التي طوقت المدينة. ليبقى الخوف والمجهول هما العنصران المخيمان على المشهد برغم التفاؤل بقرب استعادة الموصل وعودتها لحضن العراق.
صادق الطائي
المصدر: القدس العربي