أعلى الرصيف يقف منتظرًا الحافلة القادمة، كتلة من اللحم البشري تسد بابها، عندما يفشل فى إيجاد مكان لقدمه؛ يضطر إلى الانتظار، جحافل النمل تمشي فى رأسه دون توقف، الحافلة التالية ممتلئة كالتي قبلها، ومتأخرة ساعة عن موعدها، فلا يجد من مفر - ككل يوم - سوى أن ينحشر بين الركاب. فور دخوله من الباب والاقتراب من دفتر الحضور والانصراف، على يمين الردهة الضيقة، يرقبه موظف الدفتر من تحت نظارته العسلية غليظة الزجاج، وبابتسامة لا تخلو من مكر يقول:
ـ المدير يريدك.
ود - ككل مرة - أن يقذف حذاءه في وجهه، لكنه كتم ضيقه في صدره وقال:
ـ لعله خير.
وفتح باب حجرة المدير بحذر بعد ثلاث دقات، تابع تحرك الرأس الأصلع المختبئ خلف أكوام الملفات المرصوصة أمامه، شرد دقيقة يحاول إيقاف جحافل النمل التي تمشي في رأسه وعندما توقفت، وهمّ أن يصرخ لاعناً المواصلات شارحاً ما حدث، لم يستطع، ووقف دون حراك كأصم، يتفصد العرق من جبهته، ومع أول نظرة امتعاض من عين المدير، يبدي شديد الأسف على تأخره، حالفاً ألا يكررها مهما كانت الظروف، ثم يخرج مغلقاً الباب بهدوء، وعلى كرسيه الملاصق لشباك يطل على الشارع، يجلس كالعادة شاردًا في حركة المارين، وعندما يغمض عينيه يسمع صدى حروف الكلمات، التي يحاول اصطيادها وكتابتها كقصيدة تغنى.
سن القلم على الورقة البيضاء، والعنان حرٌ لما تجود بها روحه من كلمات، لكن القلم على الورقة لا يتحرك؛ وحين ينتابه اليأس، يخط كالعادة، سماءً وشجرة جافة، ووجه بنت تدمع، لكنه يمحو ما رسمه عازماً على التحلي بصبر الانتظار. فور أن يسند رأسه - ككل يوم – إلى مسند الكرسي؛ يشرد فيرى نفسه يقف على حجر مصقول، الحشود من كل الجهات تحيطه، عيونهم المحدقة تنتظر، يقرب رأس الميكرفون من فمه، مرددًا لهم كلماته الساحرة:
ـ ك ب ت ا ر م...
***
كلما دلف عابراً الطرقة إلى الغرفة يلمح شبحًا، يرجع برأسه فيجد طيف الشبح قد اختفى، الأشياء تنتقل من أماكنها المعتادة ليجدها بعد عناء في أماكن غريبة، المفاتيح في الحمام، الملابس في المطبخ، أدوات الطعام في سلة المهملات؛ لذا يقرر رسم خطة للإيقاع بالشبح، لكن عند تطبيقها في كل مرة تفشل، بعد وقت لا يأبه للأمر، مرتضياً بشبح خفي يقاسمه العيش في الشقة.
***
كتلة اللحم البشري، التي تسد الحافلة تدفعه، فيسقط جسمه على الأسفلت مدوياً، تُمزق ثيابه ويصاب بجرح في ساقه، يقف يمين الميدان الواسع تدور الدنيا برأسه، كل شيء يراه على غير هيئته وفى غير موضعه، يزفر غضبه، وبصوت عالٍ يصيح شاتماً الحافلة، وعندما يستدير يبرق طيف الشبح على أسفلت الطريق، يشير له على علامات يراها غامضة، لكن دأب الاكتشاف يحل رموز شفرتها، النمل يتحرك في رأسه ويدفعه إلى أن يكون حراً يصنع ما يريد، دون أن يعطي أي اهتمام للمحدقين فيه، شارعاً فشارعاً..وجد نفسه أمام مقهى فجلس، الحجر يراوغ بصره كلما سلطت أشعة الشمس على أحد وجوهه المصقولة.
لإجهاده الشديد، أراح رأسه على كفه؛ فتفاجأ بعد وقت باندفاع كلمات حلم يقظته، ظل يستمع حتى حفظ الكلمات عن ظهر قلب، يقطع الشارع ويقف على الحجر المصقول، يردد الكلمات بعلو صوته.
النادل أول من يقترب مأخوذاً بما يسمع، يضرب الكف بالكف، ويتراجع عندما يزعق عليه صاحب المقهى، زبد أبيض اندفع من جانبي شفتي الرجل لترديده المستمر، الرجال وأطفال المدارس يلتفون حوله في صخب وفرحة، النمل يتحرك في رأسه ويدفعه للنظر إلى السماء، فيسمع فيها صدى كلماته. الشمس تغيب، والناس تتفرق، والكلمات لا يصمت صداها في رأسه، يرددها بصوته المبحوح، ويظل يسير.
المصدر: البيان
↧