-1- صَدِّقوني، حَدَثَ هذا في شهر آب/أغسطس 2000 لمَّا كنتُ عائدًا إلى تونس من الأردن. بدأ الأمرُ في مطار "الملكة علياء" الدّولي عندما أعلمتني موظّفة الحجز بأنّي سأغيِّر طائرتي في مطار بيروت وأركب أخرى إلى تونس (لا أدري لِمَ أحْسَسْتُ في تلك اللحظة بأنّ بيروت لفظةٌ بلا ملابس داخليّة). أعرف أنّ تغييرَ الطائرات أمرٌ يَحدُث لكلّ المسافرين في مطارات الدنيا، ولكنْ لا يحدث فيه لكلّ المسافرين ما حدث لي (أنا لستُ مثل كلّ المسافرين، صدّقوني). -2- وصلتُ إلى مطار بيروت فجرًا، لم أسمع فيروز. كان عليَّ، وَفْقَ برنامج الرحلة، أن أنتظر مجيءَ منتصفِ النهار لأركب طائرة قادمة من مكان مّا تُقلّني إلى تونس. الطقس طَرِيٌّ في المطار، وكنتُ واقفًا. في يدي حقيبةٌ صغيرة بها رواية "الثلجُ يأتي من النافذة" لحنّا مينة. يبدو أن هناك استقبالاً لعروس أو توديعًا لها في ردهة مّا، سمعتُ دبكةَ لبنان، كانت الدَّبْكةُ فَرَحًا يسمو بمشّقةٍ على حُزنِه. قلتُ: "أفتحُ نهاري بقهوة وسيجارتيْن، وأتركُ للصدفة تدبيرَ شؤوني"، بهذا حدّثتُ نفسي، وسألتُ النادل -وهو يُعِدُّ لي اكسبرسّو- كيف يتزوّج الناس في الفجر؟ لم يجبني. قال بحِسٍّ أَمْنيٍّ: "ملامحك تُخبرني بأنّك إمّا يَمَنيٌّ وإما مَغْربيٌ". لم أقل له إنّ الملامحَ لا تُخْبِرُ وإنّما تقول، وهي العلامات الوحيدة التي ليست اعتباطية، والباقي مُوغِلٌ في الباطل. أخذتُ فنجان القهوة وأشعلت دُخاني، لم تظهر وقتَها تقليعةُ مَنْعِ التدخين بمطاراتنا العربية (التدخينُ بالمطارات فعلٌ احتفاليٌّ، فعلٌ ضَديدٌ للوِحدةِ، دُخانُ السجائر دعوةٌ إلى التيه المؤقَّتِ في أحدٍ مّا أو في شيءٍ مّا، هو تشجيعٌ على الانتماءِ إلى العابر، اللامُسَمَّى، وهو أيضًا الانتظارُ المَعَلَّقُ على ساعة الحائط الكبيرة). كان مطارُ بيروت طَرِيًّا، وكنتُ أتمزَّزُ القهوةَ وأقلِّبُ ببطءٍ صفحاتِ "الثلج يأتي من النافذة". لم أكن أقرأ الكلماتِ. هذا مؤكَّدٌ. وهذا أيضًا سبَبٌ لِمَا حدث لي. -3- على مقربةٍ منّي شابَّتانِ، كانتا تأكلان "الكُرْوَاسُّون" من دون ابتذالٍ، بل قل كان الوقتُ يأكلُهما من دون ابتذالٍ. أيّ شيءِ –قلتُ- أشهى من أُنثى في مطار بيروت يأكلها الوقتُ. هذا الوقتُ عدُوّي. وبأسلوبٍ خاصٍّ (لن أكشف عنه لكم) صرتُ جالساً مع الفتاتيْن أحدّثهما أحاديث إبليس لأهل الجنة. إحداهما كانت صامتة، بل أحسستُ بأنها تدعوني إلى الصمتِ. والثانية فتحت لي باب عرشِها. كان طولها 1.65 متراً، ووزنها 60 كيلوغراً (ستتساءلون الآن كيف عرفتُ ذيْنِكَ التفصيليْن)، هي بضّةُ الجسد، عاريةٌ دونما مبالغةٍ، يذوب من ضوء ابتسامتها الكونُ جميعه، وتذوب معه الذّنوبُ. جسدٌ تلحسُ شمعَه العسليَّ عينايَ. جسدٌ كأنه مائدةٌ من السماءِ لرَجُلٍ لم يُؤمن بعدُ. قدّمتُ لها نفسي: كاتب تونسيّ. ولأنّ الكاتبَ في عُرْفِ النساء كائنٌ سهلُ الصّيدِ، غبيٌّ، (وهو بالحقِّ كائنٌ سهلُ الصَّيدِ وغبيٌّ) لاحظتُ ابتسامةً خفيفة تعلو مُحَيّاها. قالتْ بلهجة لبنانية صافية إنها طالبة من بيروت، تنتظر ورفيقتها قدومَ زميلتهما من باريس. بيروت... هذا ما كنتُ أنتظر سماعَه منها. وانفتحت شهيّتي للكلام. رحتُ أحدّثها عن عشقي لبيروت، لم أكن أعرفُ أني أستطيع الحديث عن بيروت بأسلوبٍ إلهيٍّ. صدّقوني ليس ما أحكيه لكم خيالاً. -4- قَرَأْتني صاحبتي جيِّدًا من صفحتي الأولى إلى آخر كلماتي. وأعادت كتابتي بأسلوبها؛ قالت إنها تُحبّ تونس، وتعشق فيها الرجال السُّمْرَ (حمدتُ الله على سمرةِ وجهي). كان قولها هذا كافياً لأصير عجينةً طيِّعة بين يديها. أثْنَتْ على ثقافتي العالية. مدحتني بأجمل ما يبلغه خيالُ امرأة في مدح رجل. خِلتُها تصف لي شخصًا آخر، لكنني صدّقتها رغم ما أعرف من عيوبي. أنا كائن أصدّق المديحَ. صدّقتُ روحي ترقص في لهجتها اللبنانية. صرتُ أمامها أوسمَ رجل في الدنيا (أعني: مِزْيَانْ وبُوغُوسْ bogos بلُغة التوانسة)، هكذا بدا لي الأمر، أو هكذا شاءت هي للأمر أن يبدو لي. عرضتُ عليها زيارة تونس مع استعدادي لتحمّل مصاريف السفر والإقامة لله وفي سبيل الله. فَرِحَتْ، وحاولت تمريرَ فرحتها لصديقتها التي كانت صامتة صمتًا تمنّيتُ معه في تلك اللحظة لو أن غُولاً يأتي ويأكلها. مددتُ لمُحَدِّثتي عنواني التونسيَّ ورقمَ هاتفي. وكتبت لي هي على الصفحة الأولى من رواية "الثلج يأتي من النافذة" رقمَ هاتفها اللبنانيّ واسمَها. أيُّ نهارٍ لذيذٍ هذا يا عبدالدائم... -5- خمّنتُ أنّه عليّ أن أكون رَجُلاً شهمًا ومتحضِّرًا ومثقَّفا ومتخلٍّقًا وكريمًا (وغير هذا من الصفات العربية البائدة). فاقترحتُ على مُحدِّثتي أن نتمشى قليلا في أروقة المطار، وكان لي في اقتراحي مأربٌ آخر. وقفت بي مُحدِّثتي أمام محلّ لبيع العُطور كما لو أنّها عرفتْ مأربي، وراحت تشرح لي مزايا كلّ عطر باستفاضة معرفية كأنها هي صانعتُه. اغتنمتُ الفرصة وطلبت منها أن تختار لي عطرًا يليق بامرأةٍ أحبُّها. لم تسألني عن المرأة التي أحبّها كأنما هي تعرفها. اختارت عطرًا فاخرا، ونصحتني باقتناء بودرات ومساحيق تجميل تناسبه (حمدتُ الله أن ليلَ عَمَّان ومحلاّت الشميساني وقهوة الهِيل التي كان يُعدِّها لي صديقي المصري نادل المقهى بشارع إيليا أبي ماضي تركوا لي شيئا من العملة الصعبة أحفظ به رجولتي في المواقف الصعبة). قبل أن تُودِّعني صديقتي، رجوْتُها أن تقبل مني هديّتي: العطر وتوابعه. قبلتها بابتسامة. ثم ودّعتني بشكلٍ مّا. ومضت هي وصاحبتها إلى حيث لا أدري. -6- قضّيتُ رحلتي من بيروت إلى تونس نائماً. هل كنت أحلم ببيروت؟ ربّما. في مطار تونس قرطاج تنبّهتُ إلى وجود الشابّتيْن تجرّان حقائب كثيرة أمامي. عجبًا. ألم أتركهما في بيروت؟ التحقت بهما لأعرف الحكاية. تجاهلتني حبيبتي البيروتية. وابتسمت لي صديقتُها التي تمنيتُ أن يأكلها الغولُ. وقفت لحظةً قائلة: "لا تتبعها وإلا ستشكوك إلى أحد معارفها من أمن المطار. إنها تعمل تاجرة شنطة وأنا مساعدتها، تسافر إلى بيروت وتركيا وباريس وروما والمغرب ودُبيْ، وتعود بحقائب مليئة بهدايا مُقدَّمة لها عن طيب خاطرٍ من ضحايا كثرٍ أمثالك"، وَمَضتْ تجرُّ حقيبتَها، ومضيتُ أنا ممتلئًا بغبائي.
المصدر: المدن - عبد الدائم السلامي
↧