في الساعات الأولى لانطلاق “ملحمة حلب الكبرى”، صدر موقف مفاجئ للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إذ رفض طلب هيئة أركانه، باستئناف الغارات الجوية على حلب. ورغم أن الناشطين على الأرض أكدوا استمرار الغارات الروسية وغارات طيران النظام على أحياء حلب وريفها، إلا أن الإعلان الروسي يطرح تساؤلات عديدة حول توقيته وأسبابه. يعتقد بعض المراقبين أن الإعلان الروسي عن وقف الغارات الروسية على حلب، مناورة دبلوماسية، تكذّبها الوقائع، وهم محقون في ذلك تماماً، لكن ما غاية هذه المناورة؟ من حيث التوقيت، جاء الإعلان مفاجئاً، إذ تزامن مع بدء عمليات “ملحمة حلب الكبرى” التي أعلنت عنها فصائل معارضة في غربي المدينة وجنوبها. كما تزامن الإعلان مع اجتماع ثلاثي، جمع وزراء خارجية روسيا وإيران، والنظام السوري، في العاصمة الروسية. وجاء الإعلان بعد يوم واحد من تصريحات للرئيس الروسي نفسه، تحدث فيها عن فشل مساعيه للتفاهم مع الأمريكيين على وقف العمليات القتالية في حلب، وتشديده على مواصلة قصف حلب. قد تكون إحدى الإجابات الأكثر ترجيحاً، هي أن روسيا بدأت تستشعر بثقل الضغط الدولي عليها، وبدأت تستاء من حالة الحرج الدولي الذي تسببت به تطورات حلب. فمعنى أن تخسر روسيا تصويتاً في الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث يتواجد مندوبو كل دول العالم، بغية تسمية أعضاء مجلس حقوق الإنسان، فهذا يعني أن روسيا بدأت تعاني من عزلة دولية حقيقية. وفيما حازت السعودية على عدد الأصوات المطلوبة للفوز بكرسي في مجلس حقوق الإنسان، خسرت روسيا هذا الرهان. أي أن معظم دول العالم، لم تمنح روسيا صوتها المطلوب لاستمرار بقائها في المجلس المذكور. في السياق نفسه، جاء رفض اسبانيا ومالطا، بضغط من حلف الناتو، تزويد حاملة الطائرات الروسية “أميرال كوزنتسوف”، بالوقود، كمؤشر جديد على حالة الاستنفار الغربي حيال روسيا، والذي بدأ يأخذ أبعاداً عسكرية، تجلى بدخول طائرات الإنذار المبكر “أواكس” إلى سوريا، تحت عنوان “محاربة تنظيم الدولة”، فيما يعتقد مراقبون روس أن الطائرات تستهدف التشويش والتجسس على التواجد العسكري الروسي بسوريا. من النظريات الأخرى، تلك التي تتحدث عن معلومات يمتلكها الروس عن أسلحة نوعية وصلت لفصائل معارضة سورية، لإطلاق معركة في حلب، تُفشل المخطط الروسي في اقتحام شرق المدينة. ورغم أن تلك النظرية لا تتمتع بأي أدلة، باستثناء تصريحات من مراقبين روس، قد تُحتسب على أنها تبرير للقصف الروسي للمدينة، تحت ذريعة وجود مدد عسكري “غربي” لفصائل المعارضة، إلا أن صدور تلك التصريحات قبيل إطلاق “ملحمة حلب الكبرى”، تجعلها إحدى النظريات المطروحة بقوة. نظرية ثالثة، شاعت قبيل اجتماع وزراء خارجية روسيا وإيران والنظام في موسكو، عن خلاف بين موسكو ونظام الأسد، حول الأجندات في شرقي حلب. ففيما تريد روسيا التعاون مع الأمريكيين لتنفيذ خطة تقضي بإخراج مقاتلي “فتح الشام” من شرقي المدينة، مقابل الموافقة على بقاء مقاتلي “الفصائل المعتدلة” فيها، على أن يتم إيقاف القصف، وتنفيذ هدنة، والقبول بالمجلس المحلي المعارض كجهة تدير الشطر الشرقي من المدينة، يرفض النظام هذه الخطة، ويُصرّ على أن يقضي الاتفاق بإخراج كل المسلحين من شرقي المدينة، بمن فيهم من يُوصفون بـ “المعتدلين”، بمعنى، تفريغ شطر المدينة الشرقي من كل المقاتلين، وربما أيضاً، المدنيين. وهكذا، جاء الإعلان الروسي عن وقف الغارات على حلب، كوسيلة ضغط على النظام، حسب هذه النظرية. لكن إطلاق “ملحمة حلب الكبرى”، ربما أجبر الروس على استئناف غاراتهم، رغم إعلانهم خلاف ذلك. ومع تعدد النظريات، تبقى أرجحها تلك التي تشير إلى حدود ما يمكن أن يذهب إليه الروسي في مواجهته مع الغرب في سوريا. فرغم أن الغرب عجز عن الاتفاق على فرض عقوبات اقتصادية على الروس، فإن مجرد الضغط الدبلوماسي كان كفيلاً بإشعار موسكو، بالعبء. ورغم أن الإعلان الروسي عن وقف الغارات على حلب، يتنافى مع الوقائع، حسب نشطاء ميدانيين، إلا أن هذه المناورة الدبلوماسية الروسية، الموجهة للغرب تحديداً، تؤشر إلى مدى هشاشة القدرة الروسية على تحمل التكاليف في سوريا. بمعنى آخر، لو توافرت الإرادة لدى الغرب للحد من التمدد الروسي في سوريا، على الأقل، لكان الأمر أسهل بكثير مما يتم تصويره. لكن على الأرجح، ما يحدث اليوم مجرد ضغط غربي على روسيا، لإعادة التوازن للحالة الميدانية، بصورة تعزز حالة استمرار الأزمة، دون انتصار طرف على آخر. وبصورة تعزز التورط العسكري الروسي في سوريا، وتطيل أمده، وفي الوقت نفسه، تطيل أمد معاناة السوريين. وهكذا، يبدو أن الروس في حلب، يعانون ورطة تجعلهم عاجزين عن التقدم، وعاجزين في الوقت نفسه عن التراجع. ويبقى السؤال، متى سيقدم الغرب، سُلماً ينزل به الروس عن الشجرة، كما فعل الروس قبل ثلاث سنوات، وقت حصول مجزرة الكيماوي في الغوطة؟ أم أن الغاية تلقين الروس درساً أفغانياً آخر؟
المصدر: المدن – إياد الجعفري