عرف السوريون والجمهور العربي المتابع للتطورات في سورية الناشط الإعلامي، هادي العبدلله، بصوته الهادئ والحزين وهو ينقل منذ انطلاقة الثورة السورية مع زملاء آخرين، مثل خالد أبو صلاح، ما كان يجري في حمص من قتل وتنكيل بأهلها على يد قوات النظام والمليشيات، خاصة مجازر "كرم الزيتون" و"السبيل". كان العبدالله يغيّر صوته الحقيقي في مداخلاته الحية على الفضائيات، خوفاً على عائلته، قبل أن يُخرجها لاحقاً إلى الأردن، ليعلن عن نفسه بالصوت والصورة.
لم يفكر العبدالله يوماً أن يعمل في مجال الإعلام قبل الثورة السورية. ابن مدينة القصير في حمص، الذي لم يكمل بعد عقده الثالث، تحدث مع "العربي الجديد" بعد خروجه ليل الثلاثاء الماضي من إحدى مستشفيات العاصمة التركية أنقرة، بعد أن فك الأطباء ضماده ومشى على قدميه لأول مرة بعد الإصابة الأخيرة. فقد درس التمريض في جامعة البعث في حماة، ثم عمل معيدا في جامعة البعث لمدة شهر ونصف الشهر، لكنه اضطر إلى ترك الجامعة "رغم أنّ عملي هناك كان حلم حياتي، وذلك بسبب التضييق الأمني مع بداية الثورة وعدم تمكني من الالتحاق بالجامعة".
مع أول تظاهرة في حمص يوم 25 آذار/ مارس 2011، شعر العبدالله بضرورة أن يعرف أهل درعا والعالم كله أن حمص هبت لنجدة درعا، وأن أهلها ليسوا وحدهم. هكذا كانت البداية عبر إرسال رسائل إلى الشريط الإخباري، الذي يظهر في أسفل الشاشة في بعض القنوات ويتضمن رسائل مختلفة. ويضيف "كنت أمرر بعض المعلومات المتعلقة بالمظاهرات في حمص وقمع النظام لها". ثم تطور الأمر الى الحديث عبر إحدى القنوات كشاهد عيان، مبدلاً صوته واسمه، إلى أن بدأت القنوات المتعطشة للخبر السوري آنذاك تتصل به بعد أن ذاع رقم هاتفه، وهو ما دفعه إلى تغيير الخط السوري بخط لبناني، مما أتاح له الحديث بأريحية أكثر، كما يقول. ويضيف أنه بعد أن صارت وسائل الإعلام تطلبه بكثرة، اضطر إلى ترك العمل التنظيمي الخاص بالمظاهرات والعمل الطبي في مجال إسعاف الجرحى، والتفرغ للنشاط الإعلامي، حيث بدأ مع زملاء آخرين تنظيم العمل وإقامة شبكة لتخديم المحطات، لينتقل في هذه المرحلة من صفة "شاهد عيان" إلى ناشط إعلامي، وهي الصفة التي لازمته طول السنوات التالية، إلى أن بات اليوم يعمل كصحافي محترف، وحصل على بطاقة صحافة دولية.
بعد سقوط القصير انتقل هادي إلى القلمون، ومن ثم تنقل بين إدلب وحماة وريف حماة وريف الساحل، وأخيرًا الى ريف حلب إلى أن تعرض للإصابة أخيرا مع صديق عمره، خالد العيسى، "الذي ترك استشهاده حزنا كبيرا في نفسي".
يقول هادي بتأثر واضح وقد بدا صوته مخنوقا "أتمنى الشهادة.. أحن لخالد وطراد (صديقه المصور طراد الزهوري).. الشهادة حلم لي ولا أخاف منها". ويستذكر العهد الذي كان بينه وبين خالد في أحد ليالي رمضان قبل السحور، حيث قال له خالد "دير بالك ما بسامحك إذا صار على واحد منا شي.. لازم التاني يكمل". ويقول "هذا العهد هو ما منعني من اعتزال العمل الإعلامي بعد استشهاد خالد، لأنني سأكون خائناً للعهد".
يعد العبدلله أحد أبرز الوجوه الإعلامية المرتبطة بالثورة ليس في حمص وحسب، بل في عموم المناطق السورية. سلاحه الكلمة الصادقة، والموقف الشجاع دون أن يتدخل بالمساجلات السياسية، كما لم يظهر قط حاملا أي سلاح سوى الكاميرا.
أخطأ هادي وهو يعد الإصابات التي تعرض لها ربما لكثرتها. فقد أصيب مرتين في القصير لا يزال يعاني من آثار إحداهما حتى الآن، حيث غطى المعارك عام 2013 بين الثوار وقوات النظام وحزب الله، ومرة ثالثة في الرأس في بلدة مهين شرقي حمص، وكانت موثقة بالصوت والصورة، والرابعة في حلب قبل محاولة الاغتيال الأخيرة بيومين، عند دوار جسر الحج، حيث نزلت على المنطقة 6 براميل كان أقربها لا يبعد أكثر من عشرة أمتار عنه وعن زملائه، مما أدى إلى إصابته في الرأس أيضاً. وقد تسببت آخرها منتصف حزيران/يونيو الماضي في تعطيل قدميه وقتلت رفيق دربه خالد العيسى، لكنّها لم تمنعه من الذهاب إلى حلب ليشهد جانباً من المعارك الأخيرة هناك، ولإتمام تصوير برنامج يعمل عليه مع زملاء له في إسطنبول باسم "ورشة أمل".
وعن زيارته، يقول هادي "كنت مترددًا في البداية، بعد أن نصحني الأصدقاء بأن الأمر سيكون صعبًا علي، حيث قدماي مضمدتان ولا أستطيع التنقل إلا على الكرسي المتحرك. لكنني رأيت رفيق دربي خالد في المنام وطلب مني الذهاب إلى حلب، فلم أتردد بعدها، ونزلت إلى حي الراشدين داخل حلب لتصوير البرنامج".
ويقول هادي إن برنامج "ورشة أمل" يهدف إلى نقل الجوانب المضيئة في سورية، وليس فقط أخبار القتل والدمار. ويضيف: "يبتدع الإنسان السوري الكثير من الطرق للتغلب على واقع الحرب، وقد اخترنا 12 مشروعا لتسليط الضوء عليها في حلب وحماة"، حيث من المتوقع أن يعرض على قناة "أورينت" بداية الشهر التاسع.
وعما إذا كان يفكر في مأسسة عمل الناشطين بحيث لا تقتصر على جهود فردية هنا وهناك، يقول إن هناك عدة وكالات أنباء يقوم عليها ناشطون، وكنا نسعى إلى تشكيل كيان لحماية الناشطين في الداخل من أي اعتداء أو تجاوز يتعرضون له، بما في ذلك المضايقات التي يتعرضون لها من بعض فصائل المعارضة.
الحياة المضطربة والمليئة بالمخاطر، التي يعيشها خالد وبقية الناشطين الثوريين، لا تترك له متسعاً من الوقت ليفكر بحياته الخاصة: "أحزن على أهلي الذين يريدون أن يفرحوا بي، ويرون أولادي. ورغم خوفهم عليّ، الذي يظهر في اتصالاتهم بعد كل مقطع خطر أظهر فيه، لكنهم يقولون لي دوما إن حياتي ليست أغلى من حياة الآخرين. لقد طلبوا مني أن أتزوج حتى إذا استشهدت أترك ولداً يذكرهم بي".
المصدر: العربي الجديد
↧