خطة طموحة يعلنها قادة غرف العمليات في "جيش الفتح" و"فتح حلب"، تنص على كسر الحصار عن حلب الشرقية والسيطرة على قسمها الآخر الغربي. ويتضح، بعد مرور خمسة أيام من المعارك، أنها لن تكون سهلة قياساً إلى معركة فك الحصار السابقة التي أنجزت مهمتها في غضون أسبوع. بالطبع، الظروف هذه المرة مغايرة كلياً لسابقتها، فالنظام وحلفاؤه أعدوا للمعركة أكثر بكثير مما فعلوا في المرة الفائتة، والطيران الروسي ينشط في الميدان في حين كان نشاطه أقل في تلك المرة. وثمة أيضاً عامل الضغط ، إذ من المعلوم أن موسكو وطهران تسعيان إلى حسم معركة حلب والسيطرة عليها كاملة قبل رحيل إدارة أوباما، وستبذلان أكبر جهد لمنع انقلاب المعطيات على الأرض.
في معركة كسر الحصار الأولى كانت مسير المعارك يتحاشى المرور بأحياء سكنية خاضعة لسيطرة النظام، وانحصرت الغاية بفتح ممر إلى حلب الشرقية. الآن، تدور المعارك الأشرس في كتل سكنية، محصنة عسكرياً، لا تُعد الأقرب إلى القسم الشرقي، وهذا التكتيك لا يعِد مدنيي حلب الشرقية بفك الحصار سريعاً، مثلما ينذر مدنيي حلب الغربية بحرب غير متوقعة قد تدوم طويلاً. ولئن كان التكتيك صحيحاً من الناحية العسكرية، لجهة الضغط على مراكز إسناد النظام، وحرمانه من الراحة في معاقل آمنة، فلا يخفى أن الثمن سيدفعه سكان تلك المناطق الذين يدعي حمايتهم، ولن يتورع عن التضحية بهم، ولن يتورع الطيران الروسي عن قصفهم بوحشية متى صاروا خرجوا عن سيطرته.
إذاً، أول محاذر معركة حلب الحالية يتعين في الموازنة الدقيقة والمؤلمة بين فك الحصار والتجويع عن مدنيي حلب الشرقية ووقوع أقل ما يمكن من الخسائر في صفوف مدنيي الشطر الغربي، ومن المؤكد أن إقامة هذا التوازن يحتاج حكمة ودقة في التخطيط، وإذا صدق ما أعلنه جيش الفتح عن تأمين مدنيين في مناطق الاشتباك فهذا سلوك ينبغي تكريسه. حلب واحدة، وفق هذا المعيار، لا شرقية ولا غربية، وعلى رغم وجود كتلة مؤيدة في الشطر الغربي لا ينبغي استعداء الباقين، ولا تعزيز القسمة التي يريدها النظام بين الشطرين. ومع أن الدمار أقل قيمة من الأرواح إلا أنه بكل أسف سيحصل مع استمرار المعارك، وهذه المرة ستكون ضحيته الممتلكات في القسم الأكثر ثراء من المدينة، ومن المؤسف توقع الدمار الإضافي الذي سيحدثه القصف الروسي مع كل تقدم للفصائل المهاجمة.
أمام هذه الفاتورة الضخمة المتوقعة، من الضروري احتساب كافة الاحتمالات السيئة من قبل غرفتي "عمليات حلب" و"جيش الفتح"، ومن المعلوم أن فتح المعركة واستلام زمامها أولاً أسهل بكثير من إدارتها والتحكم فيها فيما بعد. هذا على الأقل ما ثبت في تجربة فك الحصار الأولى، إذ سرعان ما امتص النظام وحلفاؤه الصدمة واستعادوا زمام المبادرة، وكما نعلم استعادوا أغلب المواقع التي خسروها. هنا لا يجوز لعاقل عدم الانتباه إلى التكتيك الروسي في الضغط على طهران والنظام، فموسكو تعمد بين الحين والآخر إلى التقليل من مساندة الميليشيات الحليفة على الأرض، بغية الضغط عليها وإظهار ضعفها بمعزل عن الطيران الروسي، لكنها في النهاية ستبذل أقصى جهدها لكسب معركة حلب، ففي هذا الميدان تحديداً القوة الروسية على المحك، وانكسارها يعني خيبة طموحات بوتين في المنطقة ككل.
من دون مواكبة دولية وإقليمية موثوقة، تصعب إدارة المعركة والتحكم فيها، ويصعب حصد ثمارها؛ هذا أيضاً واحد من الدروس المتكررة مع الأسف. فمهما بلغت شجاعة المقاتلين لن تكفي وحدها، ما لم تقترن بإمدادات تناسب طبيعة المعركة، أقله من ناحية القدرة على التشبث بالمواقع وخوض حرب استنزاف طويلة فيها. وإذا أعلنت غرفتا العمليات عن توفر ذخيرة كافية لمعركة تدوم خمسين يوماً فهذا ليس مما يخيف حلفاء النظام بترساناتهم الضخمة، والعبرة هي في استمرار تدفق الإمدادات إلى المعارضة، وعدم انقطاعها فجأة كما حصل في أكثر من تجربة سابقة. من الحيوي جداً التساؤل في هذه المعركة عن عزم تركيا على الاستمرار بفتح خط الإمدادات، وعدم مقايضتها معركة حلب بمكاسب أخرى، بخاصة ضمن هاجسها الكردي، مثلما من الضروري التساؤل عن مقدار ما تسمح به الإدارة الأمريكية من إمدادات، وإلى أي حد تنوي فرملة بوتين؟
على هذا الصعيد، لا يُستبعد تقاطع الرؤيتين الأمريكية والروسية، فتكرار تقدم فصائل إسلامية ومعارضة ثم انكفاؤها يعني استنزافها واستنزاف النظام والميليشيات الشيعية الحليفة. استنزاف الطرفين فيه مصلحة أمريكية وروسية، المصلحة الأمريكية كانت صريحة خلال السنوات الأربع الماضية، وعبر عنها أوباما بنفسه في لقاء تلفزيوني من منطلق استنزاف "المتطرفين" على الجهتين. وهي واضحة من جهة موسكو، طالما لم تتمتع الفصائل المعارضة بغطاء دولي يتيح انتصاراً حقيقياً مع المحافظة عليه، فالانتصار يشكل ضغطاً على طهران والنظام، وقلب المعادلة بواسطة الطيران الروسي يُعد انتصاراً لموسكو وحدها على فصائل المعارضة، وأيضاً على حليفيها.
من سوء حظ حلب أن معركتها اتخذت أبعاداً تفوق إمكانيات مقاتليها وقدرة مدنييها على التحمل، ولا يخفى أن المقاتلين والمدنيين والمدينة صاروا أسرى الرسائل الإقليمية والدولية، دون وجود استراتيجية تأخذ حيواتهم في الاعتبار. مع المحاذير التي تحف بمعركتها لا يجوز الإفراط في التفاؤل كلما أحرزت المعارضة انتصاراً، بل ينبغي انتظار ما يخبئه حلفاؤها وراءه، قبل انتظار ما يخبئه الخصوم. ترك مدنيي الشطر الشرقي تحت طائلة التجويع ليس خياراً أخلاقياً بالتأكيد، وفتح المعركة يصبح خياراً أخلاقياً لا فقط من هدف كسر الحصار وكيفية تعامل المقاتلين مع المدنيين أثناء المعركة، وإنما أيضاً وأيضاً بمقدار ما سيبديه حلفاء المعارضة من أخلاق مع مقاتليها، وعدم خذلانهم ساعة الحقيقة.
عمر قدور: المدن
↧