خالد الخلف - صحفي وباحث سوري
خالد الخلف
هواجس ومخاوف تنتاب الشاب آدم جنوبي دمشق منذ عدة أيام، وقلق مزمن من اتفاق متوقع من الممكن أن يبرمه النظام السوري مع المعارضة وبإشراف أممي، يؤدي إلى تفريغ الحي الذي يقطنه آدم من المدنيين، من خلال نموذج من «التهجير القسري» الذي طال عدة مناطق وبلدات محيطة بالعاصمة السورية دمشق مؤخرًا (داريا – معضمية الشام – قدسيا – الهامة)، ما أفضى إلى نقل مئات العائلات من محيط دمشق إلى الشمال السوري حيث تسيطر قوى المعارضة، في حين يعمد النظام السوري إلى توطين وملء تلك البلدات التي هجرها بسكان جدد غرباء (قد لا يتمكنون من لفظ أسماء تلك البلدات بشكل صحيح) بناء على معايير طائفية وسياسية.
خمس سنوات عجاف مرت على المجتمع السوري، تعرض خلالها لصدمات وهزات عنيفة باتت تهدد هويته ووجوده، بدءًا من نهج الحل الأمني والعسكري، الذي اتبعه نظام بشار الأسد لمواجهة شعب أعزل طالب بحريته عام 2011، مرورًا بطائرات النظام وروسيا التي أمطرت مدن السوريين وبلداتهم بآلاف الصواريخ والبراميل المتفجرة، إلى استعانة نظام الأسد بقوى خارجية ذات طبيعة «دينية» ومذهبية متطرفة، من دول إقليمية مثل (العراق – إيران – لبنان)، اتخذت من الرصاص والقنابل سلاحًا ضد المدنيين، ومن التهجير القسري وسيلة لتغيير معالم المدن والبلدات التي تحتوي أي صوت أو فكر أو بندقية تقاوم انتهاكات النظام السوري وجرائمه.
تهجير يلتهم ذاكرة السوريين
آدم (27 عامًا)، متزوج وله طفلة بعامها الثاني، وجنين في رحم أمه لا يعرف بأي أرض يرى النور، يتمنى لو أن ابنته فرح (التي بدأت تحبو وتمشي منذ أشهر قليلة) تستطيع الاحتفاظ ببضع صور من غرفتها، ومن شوارع وأزقة بلدتها «يلدا» جنوبي دمشق، علّها تنجو من تشويه بصري في ذاكرتها، سينجم عن الترحال والتنقل القادم بين المخيمات والغرف الإسمنتية مسبقة الصنع، في الوجهة المجهولة القادمة.
يندرج التهجير القسرى ضمن بند الممارسة التي تنفذها حكومات أو قوى شبه عسكرية أو مجموعات متعصبة تجاه مجموعات عرقية أو دينية أو مذهبية، وغالبا يكون الهدف إخلاء أراضٍ معينة وإحلال مجاميع سكانية أخرى بدلا عنها، ويندرج هذا الهدف تحت بند التغيير الديمغرافي.
وترتبط هذه الممارسات بالتطهير الذي كان للأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية والإنسانية موقف الإدانة القاطعة لها، كما حصل في يوغسلافيا السابقة أو رواندا، وهي أمثلة سيق المتهمون فيها إلى العدالة الدولية، حيث يندرج التهجير ضمن جرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وفق القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني.
لعنة «الحافلات الخضراء»
باتت الحافلات الخضراء نذير شؤم لدى السوريين، ففيها هجّر النظام السوري قسريًا أولى المناطق في سوريا، أحياء حمص القديمة عام 2014، لتخرج «الباصات الخضر» (كما يسميها السوريون) المدنيين من مناطق الزبداني ومضايا لاحقًا، وبلدات داريا وقدسيا والهامة في محيط دمشق مؤخرًا، وغالبا ما تكون الوجهة محافظة إدلب في الشمال السوري، في مسعى من نظام الأسد لتجميع كل معارضيه هناك، حيث تشن طائرات النظام غاراتها الجوية على المدنيين يوميًا، منذ أكثر من ثلاثة أعوام.
يتفقد آدم أثاث منزله قطعة قطعة، ألعاب طفلته الصغيرة، مكتبته التي تحوي مع كل كتاب حكاية وذكرى، ينظر بحزن وأسى إلى الجدران إلى اللوحات القماشية المشغولة يدويا بيدي أمه وأبيه، إلى ساعة الحائط التي تحصي عليه وقته المتبقي في منزله، كيف سيترك بيته الذي ولد فيه لغرباء سيعبثون به.
ماذا ستحمل معك يا آدم قبل الرحيل؟ أيقدر جسمك النحيل الذي أثقله الحصار ونالت الحرب منه مرات ومرات، أيقدر على حمل ذكرياتك التي تحب؟ هل ستكتفي بمفتاح عودة حمله فلسطينيٌ قبلك بـ 70 عامًا على أمل العودة؟ الأيام باتت معدودة حتى تمسي «مهجَّرًا حتى إشعار آخر».
يا لها من عجائب القدر، كيف يستطيع السوري اليوم الخروج من بيته وتركه لغرباء، السوري الذي احتفظ بجميع أوراق الهدايا مطوية تحت طرف سريره، واحتفظ بجميع الأزرار الاحتياطية لثيابه الجميلة التي انتقاها بعد تفكير عميق، لم يسمح لأطفاله بالجلوس على «الكنبات» والأرائك دون تغطيتها، احتفظ بجميع ألبومات الصور القديمة التي لم يعد يذكر أسماء معظم أصحابها، احتفظ بكراسات أبنائه المدرسية ليباهي أصدقاءه بها كل حين، احتفظ بمقتنيات العائلة جيلًا بعد جيل.
هذا السوري اضطر في ساعة – هو لم يخترها – لمغادرة منزله، وتركه لغرباء لا يعرفهم سيعبثون به، ترك ثيابًا عمرها عشرات السنين وحدها تحمل رائحته التي اعتاد عليها، ترك «سقيفة» فوق المطبخ ملأها بذكرياته ومقتنياته عامًا بعد عام، ترك صحونا وقدورًا وحدها تحمل نفسه الطيب في الطبخ، والذي طالما طرب لمديحه … وأنت تترك جنتك مرغمًا مقهورًا، فماذا ستحمل معك يا آدم؟!
ساسة بوست
المصدر: سوريا مباشر
↧