قد يكون استفزازيا لكثيرين مفهوم جرائم الإعلام، لكن من يتابع بعض القنوات الفضائية الدينية، يدرك، إن كان يملك الحد الأدنى من المحاكمة، أية جرائم حقيقية مُغلفة بقناع العقل المضلل الجذاب تُمرّر إلى المشاهدين. لغاية تدمير عقولهم وإغراقهم بمزيدٍ من الضلال والجهل، وتالياً بعض الأمثلة:
أولاً، خصصت قناة دينية متخصصة ساعة لسيدة بالغة الأناقة، وعلى الرغم من ارتدائها الحجاب، فإن تزينها ومكياج وجهها كان ساحراً بالفعل. هي اختصاصية في تكفين الموتى على الطريقة الإسلامية. وكانت تشرح بثقة عالية بالنفس على مجسم بلاستيكي، بحجم الإنسان، طريقة تغسيل الموتى. وبدأت تنهال عليها الطلبات التلفونية، يحجز كل متصل دوراً له عندها (!)، كما لو أنهم متأكدون أنهم سيموتون قبلها، وكانت تطلب العنوان الدقيق لكل متصل ومتصلة، لكي تتمكن من تكفينه على الطريقة الإسلامية. وقد يبدو ما أقوله ضرباً من النكته والخيال، لكنني تسمرت ساعة أمام الشاشة، أتابع السيدة الخبيرة في تكفين الموتى على الطريقة الإسلامية، وكيف تسمح قناة فضائية لها ببرنامجٍ كهذا، أقل ما يُقال عنه إنه مناف للعقل والمنطق.
ثانياً، أنتقل إلى محطة أخرى، لأصادف سيدة لا يبدو منها شيء، فهي منقبة تماماً، وتلبس قفازات سوداء، وحتى فتحة العيون مغلقة بشبك أسود، تبرز منه أهداب اصطناعية، لكي تؤكد للمشاهد ربما أنها امرأة، (من أفتى لها بوجوب وضع أهداب إصطناعية؟). وهي خبيرة جنسية، كما قدمها الإعلامي اللامع الذي استضاف في برنامجه أهم نجوم الفكر والفن. تحدثت بثقةٍ عاليةٍ عن العلاقة الجنسية (علاقة جنسية تحديداً)، لأنها لم تذكر شيئاً عن المودة والرأفة والتعارف قبل الزواج والخطوبة، إلى ما هنالك. وجدت نفسي (مثل ملايين المشاهدين في عالمنا العربي البائس)، نتابع نظرية الخبيرة الجنسية في تعثر الانسجام الجنسي بين الأزواج، كما لو أن الجنس قائم بذاته، وليس نتاج علاقة إنسانية وعلاقة حب وتفاهم إلخ. وتنبه الزوجة إلى أنها يجب أن تنفذ كل طلبات الزوج الجنسية مهما كانت (!)، حتى لو لم تكن راضية، لأن نار جهنم سوف تكويها وتحرقها، إن لم تنفذ رغبات زوجها الذي يعيش على مستوى الغريزة فقط، كما لو أن العلاقة بين الرجل والمرأة علاقة نكاح فقط. أما رغبات الزوجة فلم تتطرق لها على الإطلاق، لأن غاية الزوجة إرضاء الزوج، ولا يجب أن تطمح إلى أكثر من ذلك.
وتحذر الخبيرة من الخطوبة، ومن لقاء الشريكين قبل الزواج، فالزواج بالنسبة لها أشبه بأن تضع دجاجة وديكاً في قن. لم يسألها المحاور اللامع أبسط أسئلة: ألا يجب أن يتعارف الشاب والفتاة قبل الزواج؟ ألا يجب أن يدركا أنهما سينسجمان فكرياً وعاطفياً وجسدياً؟ ثم كيف سيرى الشاب وجه خطيبته المنقبة؟ أليس الإنسان وجه؟ الرجل هنا مظلوم مثل المرأة تماماً، لأنهما حيوانات تجربة في نظر الخبيرة الجنسية. من أين أتتها كل تلك الخبرات الجنسية، وهي التي لولا رموش اصطناعية وصوتها الأنثوي لما عرفنا أنها امرأة.
ستشفق، وأنت تشاهد المقابلة، على المحاور الذي تضرّج وجهه بالأحمر، وصارت أذناه بلون الدم، وهي تحكي تفاصيل وتنويعات عمليات النكاح، كما لو أن العلاقة بين المرأة والرجل هي بين نتوء وتجويف. مؤلم جداً أن يضطر واحدنا إلى استعمال مصطلحات ولغةٍ كهذه، لكن السؤال الأهم: وهل يُعقل أن يُخصص برنامج لتكفين الموتى على الطريقة الإسلامية، وأن تنهال الطلبات لحجز الدور؟ وأن تُستضاف خبيرة جنسية لا تعرف أن الإنسان أولا وجه وروح وشخصية وحب وشغف، والأهم عقل، قبل أن تطلب من الأعضاء الجنسية التعامل مع بعضها؟
هدف هذه القنوات تدمير عقول الشباب الذين تهيمن عليهم الغريزة، وتغمرهم الهرمونات الجنسية، وبدل من أن يجدوا من يقودهم إلى طريق أنسنة الجنس، أي الارتقاء به، من المستوى الحيواني إلى الإنساني، فإنهم يتعرّضون لأبشع أنواع الاستعمار، حيث تدمر شخصيتهم الخام النقية في العمق، ليزيد التخلف، وليزيد تراكم المال الحرام، وتبييض الأموال في جيوب هؤلاء تجار الشيطان. تُرى، ألم يحن الوقت، لنتساءل بجدية: لماذا ليست هنالك قنوات فضائية متنورة خاصة للشباب، أم أن الأغلبية تجد العلاقة مع الشيطان مربحةً بما لا يقاس من العلاقة مع رب العالمين؟
المصدر: العربي الجديد - هيفاء بيطار
↧