الطريق من بغداد إلى الفلوجة (60 كيلومترا) مليء بنقاط التفتيش التي تسأل عن الهوية الشخصية، ومن أين أنت قادم وإلى أين تذهب؟ وعن أسباب الزيارة، لكن البطاقة الصحافية كفيلة بالإجابة عن الأسئلة، فالأجهزة الأمنية هنا متعاونة مع الصحافة. قرى وبيوت مرمية على جانبي الطريق ونحن نقطع أبنية سجن «أبو غريب» المركزي من جهته الخلفية.. كان علينا أن نغير مساراتنا بسبب قطوعات في الطريق لمخاوف من وجود عبوات ناسفة قد تكون ما زالت مزروعة هناك، وقبل الوصول إلى المدينة التي كانت محتلة من قبل مسلحي «القاعدة» ومن ثم تنظيم داعش لأكثر من ثلاث سنوات، نفاجأ بقوة أمنية تكشف نفقا يمر تحت الطريق الرئيسي، حيث اكتشفوا توا مجموعة كبيرة من العبوات الناسفة والمتفجرات مخبأة هناك. «الشرق الأوسط» زارت أول مدينة احتلها تنظيم داعش في العراق وتحررت في يونيو (حزيران) الماضي، وتنقل قصص الخراب فيها.
الطريق الدولي السريع (تم فتحه في نهاية الثمانينات من القرن الماضي)، هكذا يطلقون عليه، كونه يربط العراق بالحدود البرية مع الأردن من جهة، ومع سوريا من جهة أخرى، وحتى دخول القوات الأميركية كان يعتبر واحدا من أفضل الطرق في المنطقة لسعته وجودته وسلاسة القيادة فيه، اليوم نجده مؤثثا بالحفر والمطبات التي انتشرت فيه منذ 2003 عندما داسته الدبابات والدروع الأميركية التي جوبهت بقذائف أهالي الفلوجة الذين رفضوا دخولهم بصفتهم محتلين. فقد تعرضت الفلوجة لهجمات عدة، منذ الاحتلال الأميركي وحتى خروج مقاتلي «داعش» في يونيو الماضي، مرات عدة من قبل القوات الأميركية، وأخرى من قبل الحكومة العراقية.
نجتاز النقطة (السيطرة) العسكرية الأولى بسلاسة، وفي السيطرة الثانية التي تقع عند حدود المدينة، فاجأنا ازدحام السيارات التي تقل العوائل العائدة من مخيمات النازحين إلى بيوتهم، نقرأ علامات السعادة مرسومة فوق وجوه الأطفال والنساء، بينما الرجال أولياء هذه العوائل منشغلون بالحصول على موافقات دخولهم إلى مدينتهم التي غادروها منذ ثلاث سنوات.. الإجراءات، وحسب قائمقام قضاء الفلوجة، عيسى ياسر العيساوي، تتلخص في «إدخال أسماء الرجال في الكومبيوترات، لمعرفة ما إذا كان الرجل مطلوبا للأجهزة الأمنية بسبب انتمائه إلى تنظيم داعش أو كان مطلوبا في أي قضية أو متورطا بجرائم قتل، هذه الإجراءات صارت اليوم تتم بسرعة بسبب التعاون الذي تبديه الأجهزة الأمنية مع العوائل العائدة، حيث يحصلون على بطاقات السماح لهم بالدخول آمنين إلى بيوتهم».
يقول العيساوي، الذي اختير مسؤولا عن إدارة المدينة منذ أكثر من عام لـ«الشرق الأوسط» في مكتبه وسط الفلوجة: «هناك ما يقارب 60 في المائة من النازحين لم يعودوا إلى بيوتهم»، وحسب لغة الأرقام التي يجيدها القائمقام فإن «23 ألف عائلة مسجلة باعتبارها من العائدين، لكن العدد الفعلي لمن استقروا هو 25 ألف عائلة»، مشيرا إلى أن «هناك عوائل نحن فضلنا عدم عودتها حاليا بسبب تورط أبنائها بالتعاون مع تنظيم داعش، ولا نريد الدخول في نفق الثارات العشائرية حاليا، وحتى نحقق المصالحة الأهلية بين هذه العشائر، كون مجتمعنا عشائريا تماما، وقد دعينا إلى اجتماعات ولقاءات وندوات يحضرها شيوخ عشائر وأكاديميون ورجال دين وأعضاء في البرلمان العراقي ومجلس محافظة الأنبار، للتداول في كيفية تحقيق هذه المصالحة»، منبها إلى «أننا نتبنى فكرة منح فرص لمن تعاون مع تنظيم داعش مجبرا أو تعاطف معهم، لكنه غير متورط بجرائم قتل أو اختطاف أو أي جريمة إرهابية».
العائدون يمضون نحو المجهول، لا يعرفون ماذا تبقى من بيوتهم وأثاثهم، بعضها دمر بالكامل، وبعضها أصابه خراب نسبي، وهناك بيوت وفيللات لم يصبها أي ضرر. القادمون من مخيمات الغربة والتعب، بعضهم أمضى ثلاث سنوات في ضياع هذه المخيمات بعيدا عن مدينتهم، وبعضهم كان مترفا ماديا فاستطاع إيجار بيت في بغداد أو أربيل أو السليمانية وحفظ عائلته من المتاعب والذل. أسأل أحد العائدين مع عائلته عن سبب عودته المبكرة، وما سيفاجئه من خراب وغياب الخدمات، فيجيب: «ليس هناك عذاب وإذلال أكثر من المخيمات والغربة، خصوصا إذا كانت معك عائلتك»، مستطردا بقوله: «لا يهمني إذا كنت سأجد بيتي مهدما بالكامل، سأنصب خيمة فوق أنقاضه، وسأبدأ بإعادة إعماره تدريجيا، المهم أنني سأنام مع عائلتي فوق أرضي وكرامتي محفوظة رغم غياب الخدمات».
وما يزيد من متاعب العائدين من مخيمات النزوح إلى بيوتهم، وحسب ما يوضحه العيساوي، هو أن «الحكومة لا تعوض المتضررين، لا تعوض عقاراتهم التي هدمت بسبب القصف الجوي أو المدفعي من قبل القوات الأمنية أو التفجير من قبل (داعش)، ولا أثاثهم ولا تساعدهم على إعادة إعمار بيوتهم»، معترفا أن «هناك القانون رقم 20 القديم الخاص بالتعويضات وإجراءاته بطيئة للغاية، فأنا أنتظر منذ 2008 تعويضي عن بيتي الذي هدم بعمليات إرهابية وحتى اليوم لم أحصل على أي شيء».
ندخل إلى المدينة، حيث إيقاع حياتها البطيء للغاية، الأبنية والشوارع التي سلمت من الدمار الكلي، موشومة بالرصاص والقذائف، ما من جدار يخلو من آثار الرصاص أو القصف المدفعي، بينما هناك أسواق وعمارات وبيوت احترقت وتهدمت بأكملها، حتى المساجد والمدارس لم تنج من القصف والتخريب، منائر مبتورة وقباب فيروزية مثقوبة في مدينة لقبت بمدينة القباب والمآذن لكثرة مساجدها.
في الشارع الرئيسي للمدينة، حيث تحتل عمارة محترقة، وما أكثرها هنا، أحد أركان الشارع قبالتها يتعانق رجلان، هما ابنا عمومة لم يلتقيا منذ ثلاث سنوات. «هجرنا (داعش)، وكل واحد منا راح في اتجاه مغاير، كنا منشغلين مع عوائلنا بالانتقال من مخيم إلى آخر، وها نحن عدنا قبل أيام قليلة لركام بيوتنا»، يوضح إبراهيم محمد الذي بدا متعبا للغاية، ومع ذلك يقول، وهو متكئ على دراجته الهوائية: «الحمد لله والشكر أننا عدنا إلى مدينتنا وأهلنا، عدنا مواطنين من أهالي الفلوجة التي ولد فيها آباؤنا وأجدادنا، بدلا من التسمية التي كانت تطلق علينا (نازحين)»، مشيرا إلى أن «الحكومة لم تقدم أي مساعدات أو دعم لنا، السياسيون سرقوا الأموال المخصصة للنازحين ولم يحاسبهم أحد، واليوم كل ما نحتاجه هو إعادة جزء من الخدمات مثل الماء والكهرباء».
الأحياء هنا يوحدها الخراب، قلة من الناس في الشوارع، حتى في مركز الفلوجة الحياة تجري بطيئة، ندخل شارع الأكارم في حي الشرطة بحثا عن الإيقاع الداخلي للمدينة التي خلت من المقاهي والمطاعم، نلتقي مصادفة رجلين يجلسان خارج منزليهما، الأول عاش في الفلوجة طوال وجود مقاتلي تنظيم داعش، والثاني ترك المدينة منذ اليوم الأول لدخول التنظيم إلى الفلوجة قبل أكثر من ثلاث سنوات وعاد إليها قبل أكثر من شهر.
يقول عصام ناجي فياض، وهو رب عائلة تتكون من ثلاثة أشخاص: «أنا لم أترك بيتي ومدينتي طوال السنوات الثلاث التي احتل فيها الدواعش الفلوجة، قررت البقاء هنا لأنني لا أريد أن أجرب ذل المخيمات ومتاعبها»، مشيرا إلى «نحن خرجنا قسرا قبل ثلاثة أشهر، أي عندما دخلت القوات العراقية لتطهير المدينة من التنظيم ومن العبوات الناسفة».
يتحدث فياض، الذي تنقل نبرات صوته ونظراته معاناة ومأساة ثلاث سنوات من المتاعب الحياتية والخوف والقلق، قائلا لـ«الشرق الأوسط»: «كان هناك أكثر من مائة ألف من الأهالي، نساء وأطفالا ورجالا، حولنا ولم يتركوا بيوتهم، ربما هناك أعداد أكثر في الأحياء السكنية الأخرى، وكانت معاناتنا، خصوصا في السنة الأخيرة، لا توصف، إذ عانينا من شح المواد الغذائية والوقود، حتى إننا اضطررنا إلى حرق أثاثنا الخشبي لأغراض طبخ الطعام». يضيف قائلا إن «مقاتلي (داعش) استباحوا كل شيء، اعتبروا كل البيوت والمباني الحكومية (وقف للدولة الإسلامية) حسب ما كانوا يكتبون على جدران العقارات التي سكنوها وسرقوا ما فيها ثم فجروها أو زرعوها بالعبوات الناسفة، حتى الإنسان كان وقفا وأسيرا لديهم، نفعل ما يأمروننا به، وبعكس ذلك تكون عقوبة الجلد أمام الناس في الشارع العام، أسلوبهم الوحيد لمن يعتقدونه أنه خالف تعليماتهم مثل التدخين أو عدم الصلاة في المساجد أو عدم إطلاق اللحى أو للمرأة غير المنتقبة»، مشيرا إلى أن «ممارسات تنظيم داعش كانت أبعد ما يكون عن الإسلام وعن أي دين سماوي أو غير سماوي، مثلا كانوا يكدسون المواد الغذائية والوقود في بيوتهم، بينما هناك عوائل انتحرت جماعيا بسبب الجوع، كنا نطحن نواة التمر كي نصنع منه خبزنا، هذا غير أوامرهم اليومية التي قتلت حياتنا، باختصار نحن كنا في عداد الخسائر، في عداد الموتى، وكنا نحيا بالمصادفة ليس إلا».
ويوضح فياض: «محاولات الهروب من الفلوجة خلال وجود مقاتلي تنظيم داعش كانت مستحيلة، فالدواعش كانوا يمنعون التسلل من المدينة سواء عبر المزارع أو عبور نهر الفرات، وقد تكون العقوبة الإعدام إذا ما اكتشفوا محاولة الهروب من جحيم المدينة، وإذا حصل وتمكن أي شخص من التسلل من المدينة فقد كان هناك الحصار الذي فرضه الجيش العراقي، وغير هذا وذاك كان القصف المدفعي وبراميل المتفجرات التي تضرب الأحياء السكنية بصورة عشوائية فتقتل المدنيين ولا تصيب الدواعش، وقد راح عمي ضحية القصف المدفعي للقوات العراقية، وعندما حاولت إخراج عمتي المريضة من الفلوجة منعني تنظيم داعش وبإصرار، باختصار كنا بين سندان (داعش) ومطرقة القصف المدفعي وبراميل المتفجرات التي كانت تلقى علينا، وكان الأجدر بالحكومة أن تلقي علينا حاويات طعام وماء بدلا من حاويات الموت».
ويشير فياض إلى أن «غالبية الدواعش كانوا من الأجانب وليسوا من أهل المدينة، نعم هناك أكثر من خمسة في المائة من أبناء الفلوجة ينتمون إلى التنظيم، لكن الآخرين كانوا من جنسيات مختلفة، بينهم غربيون وبنغلاديشيون ومواطنون عرب».
بعد ثلاث سنوات من الحياة تحت ظل تنظيم داعش، ترك فياض بيته ومدينته قسرا بسبب بداية العمليات العسكرية لتحرير الفلوجة، يقول: «مع بداية العمليات العسكرية وبدء انحسار وجود الدواعش، الذين تركوا المدينة بلا قتال، تمكنا من التسلل إلى خارج الفلوجة، كان عددنا يقدر بعشرات الآلاف، مشينا مسافة ثمانية كيلومترات، هناك من حمل أمه فوق ظهره، أو وضعها بعربة يدوية، حتى وصلنا إلى القوات العسكرية التي أحسنت استقبالنا، أتذكر أنني شربت ما يقرب من سبعة قناني ماء مباشرة وقتذاك». يتوقف عن الحديث وكأنه يستذكر أمرا ما، ثم يقول مستطردا: «كانت ثلاث سنوات سوداء، ومظلمة، وقاسية، ومتعبة للغاية».
على العكس مما جرى لعصام فياض، الذي فضل البقاء ببيته ولم يهاجر إلى خارج مدينته، ربما العامل المادي أحد أسباب بقائه، فإن صديقه فلاح صالح نعيم كان يجلس فوق كرسي أمام بوابة بيته، ترك مدينته منذ الساعات الأولى التي بدأ فيه مقاتلو تنظيم داعش بالتسلل إلى الفلوجة، ذلك أن ظروفه المادية مكنته من الخروج في ظل ظروف آمنة كونه تاجر حديد، وكان يملك وقتذاك أربع سيارات. ويقول: «مع بدء ظهور مقاتلي (داعش) في الشوارع اتصل بي أحد الأصدقاء ونصحني بأخذ عائلتي وترك المدينة، وبسرعة حملنا بعض ملابسنا واتجهنا صوب هيت (تبعد مسافة 50 كيلومترا عن الفلوجة). تركنا البيت مثلما هو بأثاثه الثمين للغاية ولم نفكر إلا بحياتنا، يضيف قائلا لـ«الشرق الأوسط»: في «مدينة هيت استأجرت بيتا وأثثته وبقينا هناك عشرة أشهر، لتصل طلائع مقاتلي (داعش) إلى هناك، مما اضطررنا إلى ترك هيت باتجاه مدينة الرطبة».
ويبدو أن خريطة نزوح نعيم مرتبطة بخريطة تحرك مقاتلي تنظيم داعش، إذ «بعد وصولنا إلى الرطبة، وأيضا استأجرنا بيتا هناك وقمت بتأثيثه، اتجهنا إلى كبيس وحديثة، أي أن تحركنا كان في مدن غرب العراق والمحيطة بالفلوجة وضمن محافظة الأنبار، حتى قررنا السفر إلى بغداد والاستقرار هناك لحين موعد عودتنا إلى بيتنا هذا قبل أكثر من شهر».
يضيف نعيم قائلا: «أنا وعائلتي، التي تتكون من عشرة أشخاص، لم نسكن في مخيمات والحمد لله، لكن الغربة عن البيت والمدينة والأهل صعبة، ثم إنني فقدت كل ما كان عندي من سيارات وتجارة، وبعت سياراتي لأتمكن من حفظ كرامة عائلتي، وعندما عدت وجدت البيت خربا، حيث كان الدواعش قد اتخذوه مسكنا لهم، وكل الأثاث مسروق، سواء من قبل (داعش) أو غيرهم»، مشيرا إلى أن «الأوضاع الأمنية في الفلوجة مستقرة حاليا، لكن غياب الخدمات من الماء الذي نشتريه من القطاع الخاص (سعر حمولة صهريج الماء خمسة آلاف دينار عراقي أو ما يعادل 3 دولارات)، والكهرباء التي نوفرها عن طريق مولدات صغيرة».
انتظرنا في مكتب قائمقام الفلوجة، عيسى ياسر العيساوي، أكثر من عشرين دقيقة، حيث كان في جولة للإشراف على أعمال رفع الأنقاض، وتوفير ما يمكن تحقيقه من خدمات «حسب ما تتيحه لنا إمكاناتنا المادية»، حسب إيضاحه. كان وفد من شركة توزيع المنتجات النفطية في محافظة الأنبار موجودا في المكتب عند وصول القائمقام. الوقود أمر في غاية الأهمية في إعادة الخدمات للمدينة، بدءا من توفير الطاقة الكهربائية لضخ مياه الشرب وتصريف المياه الثقيلة، وخدمات النقل، والغريب أن وزارة النفط التي هي جزء من الحكومة لها تعاملاتها البيروقراطية في توفير الوقود لأي جهة حكومية وتتعامل معها باعتبارها مستفيدا خارجيا، ويجب استيفاء ثمن الوقود مثل أي عميل آخر، حتى وإن كان وضع مدينة الفلوجة وإعادة إعمارها طارئا.
العيساوي، ابن مدينة الفلوجة وينحدر من إحدى أبرز عشائرها التي تنتمي، مثل غالبية عشائر الأنبار، إلى قبائل الدليم، وقد عاصر تنامي الجماعات المسلحة في الفلوجة منذ أن كانت تنتمي إلى تنظيم القاعدة، يقول: «منذ 2011 كانت الفلوجة خارجة عن سيطرة القوات الأمنية، وكان وجود المجاميع المسلحة التابعة لتنظيم القاعدة واضحا حتى 2013، حيث ظهر ما يسمى داعش، ومع المظاهرات وساحات الاعتصام، استغل المسلحون هذه الساحات وتكرس وجودهم وسيطروا على مجرياتها خصوصا بعد الاعتصامات في الرمادي واعتقال النائب أحمد العلواني في نهاية 2012، حيث تمت الاستفادة من هذه الحادثة، وسيطر المسلحون على الوضع تحت تسميات متعددة منها الثوار وثوار العشائر، لكن في الحقيقة هم من تنظيم داعش»، مشيرا إلى أن «الاعتصامات لم تكن بيد الدواعش إلا بعد أن فلتت الأمور من أيدي المتظاهرين وظهور الملثمين الدواعش، والتداعيات الأمنية في الفلوجة بدأت في 2011 بسبب الترهل الذي أصاب الأجهزة الأمنية واختيار قادة ومسؤولين غير متخصصين وبلا كفاءة، كما أن أموال المشاريع المخصصة للإعمار كانت نسبة كبيرة منها تذهب إلى المسلحين الدواعش الذين أيضا فرضوا إتاوات على أصحاب المحلات التجارية والمطاعم، والذي لا يدفع لهم كانوا إما أن يفجروا بيته أو محله وإما أن يختطفوا أحد أفراد عائلته لابتزازه».
ويشير العيساوي إلى أن «الدواعش دخلوا الفلوجة وسيطروا عليها خلال أيام ما بين نهاية 2013 وبداية 2014، وهي أول مدينة تحتل من قبل تنظيم داعش، وخرجوا منها في 24 يونيو 2016، وكانت أعدادهم كبيرة، وانسحبوا من المدينة بلا مقاومة وبلا قتال. وكان هناك ما نسبته ما بين 50 و60 في المائة منهم من أهالي الفلوجة نفسها، وتم اعتقال 1700 منهم وهم قيد الاعتقال والتحقيق، ونحن نخشى من الثارات العشائرية بين الدواعش وضحاياهم، ونحن نعمل على إجراء صلح مجتمعي خصوصا مع الذين لم تلطخ أيديهم بالدماء، هناك من أيد أو تعاون مع التنظيم دون أن يقترف أي جريمة، وهناك عوائل انتمى أحد أفرادها للتنظيم، وهؤلاء لم نسمح لهم بالعودة لحين تحقيق مصالحة بين العشائر، ونحن نعمل على عقد مؤتمرات لشيوخ العشائر يحضرها أكاديميون ورجال دين وبرلمانيون».
وبين جهود القائمقام في تحقيق الصلح الاجتماعي وإعادة الاستقرار في المدينة يتوزع وقت العيساوي، خصوصا أنه المسؤول الإداري عن واحدة من أكبر مدن محافظة الأنبار التي تبلغ مساحة مركزها خمسة كيلومترات مربعة، وتضم 50 حيا سكنيا بينها ستة أحياء غير مفتوحة، بسبب وجود المتفجرات التي زرعها الدواعش قبل خروجهم»، حسب إحصائيات رسمية يوردها العيساوي، الذي يضيف: «أنا مسؤول عن طلبات سكان المدينة، خصوصا أنهم يعودون إلى أحياء خربة وبلا خدمات، إذ يبلغ عدد سكان مركز الفلوجة 300 ألف نسمة، وعن عودة الدراسة في 75 بناية مدرسية لم تفتح إلا قسم بسيط منها، كما يوجد مستشفيان، واحد للنساء والأطفال والثانية عامة، وجامعة الفلوجة التي تضم خمس كليات بدأت الدراسة فيها فعليا».
وحول ما يتعلق بتوفير الخدمات، يوضح قائمقام الفلوجة أن «خدمات الكهرباء وصلت إلى قسم من الأحياء السكنية، ونعمل على إعادتها إلى كامل المدينة، بسبب الأضرار التي لحقت بالشبكة والمحولات، وهناك المولدات التابعة للقطاع الخاص، بينما يتم ضخ الماء الصالح للشرب بواقع 3 ساعات يوميا، بسبب الأضرار في شبكات الأنابيب، فالطاقة التشغيلية لمشروع الماء هي 2200 متر مكعب بالساعة، وهذا كان يغطي صفر في المائة من احتياجات الأهالي، والآن يعمل بطاقة 500 متر مكعب في الساعة»، مشيرا إلى أن نسبة الدمار والخراب في المدينة تبلغ 30 في المائة، والإعمار يتم شخصيا، يعني الناس هي التي تعيد بناء بيوتها أو محلاتها التجارية وليست الحكومة التي لم تقدم أي تعويضات للمتضررين أو أن تعيد إعمار المدينة.. ما يحدث الآن هو أننا سعينا لإعادة الاستقرار والاهتمام بالبنى التحتية، وتسلمنا الأعمال الطارئة لإعادة الاستقرار التي تحتاج إلى ما يعادل نحو مليار و700 مليون دينار عراقي (ما يعادل نحو مليون و250 ألف دولار تقريبا).. أهّلنا مشاريع الماء والمياه الثقيلة ورفع الأنقاض وتأهيل جسر الفلوجة، فقد دمر (داعش) جميع جسور الفلوجة والبالغ عددها 11 جسرا».
المشهد الحياتي في مدينة الفلوجة الخارجة من ظلام تنظيم داعش، ليس قاتما تماما، إذ تتخلله بعض الألوان التي تبعث على التفاؤل، فأصحاب المحلات التجارية أعادوا أو يعيدون إعمار محلاتهم ويجهزونها بالبضائع رغم آثار التفجير وسواد الدخان الذي يغلف البناية بأكملها، وفي سوق المدينة الكبير تتوفر غالبية من المواد الغذائية والحاجات المنزلية والكهربائية الضرورية.. الحياة لم يوقفها تنظيم داعش، إذ إن إصرار الأهالي على الاستمرار بحياتهم يعطي دفقة أمل بعودة المدينة إلى أوضاعها السابقة، حتى لو تأخر ذلك.
المصدر: الشرق الأوسط
↧