تشهد كنسية القيامة القائمة فوق صخرة الجلجثة في البلدة القديمة، حدثًا نوعيًا يتمثل في ترميم مقام المسيح، فلأول مرة منذ 200 عام، اقترب علماء الآثار بأيديهم ومعداتهم من ترميم المقام الذي ركع عنده ملايين الحجاج المسيحيين.
هذا الحدث الخاص بأقدس الأماكن عند المسيحيين سيستغرق ثمانية أشهر، على أن تنتهي قبل أعياد الفصح عام 2017، ويقوم به خبراء يونانيون بدعم من «ناشونال جيوجرافيك سوسايتي» والعاهل الأردني عبد الله الثاني، كما تتكفل الكنيسة الأرثوذكسية والكنيسة الأرمنية ورهبان الفرنسيسكان بتغطية تكاليف عملية الترميم.
ترميم المقام المنحوت في الصخر
أزيحت للمرة الأولى منذ عام 1810، على أقل تقدير، الرُخامة التي تغطي مقام المسيح، في كنيسة القيامة بالقدس، فقد قضى اتفاق مبرم بين عدة أطراف البدء بإجراء أعمال ترميم الكنيسة على أيدي عدد من العلماء للمرة الأولى منذ آيار (مايو) الماضي.
وبحسب صحيفة «ديلي ميل» البريطانية فإن «فريق الترميم كشف عن السطح الأصلي للمقام المقدس في وسط الكنسية، وهو سطح مصنوع من حجارة الرخام، ويعتقد الخبراء أن المقام أصبح محاطا بالرخام منذ عام 1555 على الأقل».
ولفتت الصحيفة إلى أنه ستجري عملية تحليل للحجارة، لمعرفة صخور السطح الأصلي، التي بحسب الاعتقاد المسيحي، رقد عليها السيد المسيح بعد صلبه. ويقول المسيحيون إن السيد المسيح وضع على صخور أخذت من كهف جيري بعد صلبه على أيدي الرومان قبل نحو 2000 عام.
يستند المقام منذ عشرات السنوات إلى بنية معدنية تجمع قطع الرخام، هذه القطع الرخامية تأثرت بفعل الزمن وتدفق الحجيج المسيحيين، وبدأت تتفكك، ولن تفلح السقالات و لوائح الحماية وسواتر الحديد في تأمين الوضع.
ويؤكد تقرير صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية على أنه «سيتم انتهاك المقام المنحوت في الصخر بسبب أن الكنيسة التي بنيت حوله آيلة للسقوط، سيقومون بتنظيف آثار دخان شموع النذور التي خلفتها القرون، كما سيقومون بتثبيت الرخام، وحقن الملاط الحديث لتثبيت الصرح القديم».
ونقلت الصحيفة عن فريق العمل اليوناني، تأكيده على عدم إغلاق الكنيسة، أثناء أعمال الترميم. وتقول قائدة الفريق اليوناني أنتونيا ماروبول إنه «مناخ مليء بالتحديات، ولكنه مثير جدًا، هذا هو أكثر الأماكن حياة من بين الأماكن التي عملنا بها. سنرى ماذا يوجد بالداخل».
حاجة لإجراء ترميمات جذرية
وقّع في مارس (آذار) الماضي بطريرك المدينة المقدسة وسائر أعمال الأردن وفلسطين، «كيريوس كيروس ثيوفيلوس الثالث»، مع الجامعة الوطنية التقنية في أثينا، اتفاقية تاريخية، تقضي بإعادة ترميم مقام المسيح في كنيسة القيامة في القدس.
وأشار رئيس أساقفة سبسطية للروم الأرثوذكس المطران عطا الله حنا، في حديث لـ«ساسة بوست»، إلى أنه قد مر أكثر من 400 عام على آخر ترميم جرى للمقام، مُوضحًا أنه بعد الكثير من البحث والدراسات، تبين أن هناك حاجة لإجراء ترميمات جذرية جديدة، فدُفع بهذا العمل إلى مجموعة من الباحثين وعلماء آثار من مناطق مختلفة من العالم، بخاصة روسيا واليونان، وبحسب المطران عطا الله حنا، فإن هؤلاء العلماء وضعوا بحثًا تفصيليًا للترميم، ثم حدث الترميم بالفعل منذ عدة أشهر، ومن المفترض أن ينتهي قبل عيد القيامة، اعم 2017.
وأضاف: «كنيسة القيامة في القدس، والمقام المقدس داخلها، يعتبر من أهم المعالم الدينية الروحية المسيحية في العالم، لا يوجد معلم أقدس ولا أهم في الإيمان المسيحي من كنيسة القيامة، لأنها تحتضن أهم الأماكن المقدسة المرتبطة بحياة السيد المسيح».
ويصف المطران حنّا، ترميم المقام، بـ«الحدث الوطني والديني الكبير»، مُوضحًا: «فهو يهمنا كمسيحيين وكفلسطينيين أن تبقى كنيسة القيامة في القدس إلى جانب المسجد الأقصى من أهم المعالم الدينية لدى الشعب الفلسطيني والمؤمنين من المسيحيين والمسلمين».
وقال، إن هناك تنسيق وتعاون وثيق بين الكنائس المسيحية في القدس، التي تُعد المشرفة على أعمال الترميم، بعد أن وافقت عليها.
ترميم أم تنقيب؟
من أجل إصلاح مبنى المقام المهدد بالانهيار، سيضطر الفريق إلى الدخول بضعة أمتار بداخل الصخرة «المقدسة»، وذلك بعد أن قام الفريق بعمل جلسات للكنيسة عن طريق أجهزة رادار، لاستكشاف باطن الأرض وماسحات ليزر، كما قام الفريق بتشغيل طائرات بدون طيار، تحمل كاميرات فوق الموقع، وهو ما مكّن الفريق من كشف شرخ في صخرة المقامة، لم يكن مكتشفًا من قبل، ويعتقد أنه ناتج عن الإجهادات التي تتعرض لها الأعمدة التي تحمل القبة.
https://www.youtube.com/watch?v=R1MV-8DhN-I
من جانبه اعتبر الباحث القبطي روماني إسطفانوس، في حديثه لـ«ساسة بوست»، أن ما حصل في كنيسة القيامة مخالف لقواعد الترميم المتعارف عليها، «فقد بدأوا مباشرة بالعمل على الرخام، وعلى مكان ظهور النور المقدس، بينما الترميم يبدأ بالأخشاب والأيقونات وجميع الأسقف»، حسبما قال.
وأضاف: «رفعوا الرخام حتى وصلوا للرخامة الأصلية التي كان عليها الأكفان ملفوفة، ويظهر ذلك أن الهدف ليس الترميم وإنما التنقيب بهدف الطعن في صحة المقام، أو وجود آثار لليهود كعملات مثلًا أو ما شابه».
ويعتقد إسطفانوس أن الانتهاء مما اعتبره تنقيبًا، بعد عيد الفصح، هو أمر متعمد، مفترضًا احتمالية تجنيد البعثة، التي قال إنّها عجّلت بزرع أكثر من ثمانية كاميرات عالية الجودة داخل المقام.
وقال إسطفانوس: «من الواضح أنه بعد فشل الإسرائيليين في التنقيب أسفل المسجد الأقصى، حاولوا تغيير المكان واستبدلوه بالمقام المقدس، وسوف يعملون جاهدين لدس أو إيجاد مخطوطات أو عظام أو عملات لإثبات أن المقام من القرن الرابع الميلادي، أي أن مقام المسيح مزيف».
كما قال إن مركز مدينة القدس المحتلة، هو المَحجر الذي بأعلاه قبة الصخرة، وأن صخرة الجلجثة التي فيها مقام المسيح، كانت داخل البلدة القديمة، وأن تغيّر الرقعة السكانية داخل القدس، أدى لتغيّر المكان على شكل رقم ثمانية.
التناغم الإسلامي المسيحي في القدس
تسبب تأخير ترميم المكان الأكثر قداسة بالنسبة للمسيحيين، في نشوء حالة من الجدل، إذ يعتقد أصحاب المذهب الكاثوليكي والأرثوذوكسي الشرقي، أن المسيح دفن في هذا الموقع الكائن بكنيسة القيامة.
ويُسجل تاريخيًا، أن أعمال التنقيب عن الآثار داخل كنيسة القيامة محدودة للغاية، بسبب التقاليد المسيحية التي اعتبرت المكان للتعبد، وليس مكانًا للحفر والتنقيب، حتى أن المسيحيين كانوا متحمسين لرؤية المقام عندما بدأ اليونانيون في ترميمه بعد حريق عام 1808.
وقال مدير مركز المخطوطات في الأقصى رضوان عمرو، إنه قد «جرى تفكيك بلاطة المقام المقدس ورفعها لأول مرة، ذلك بإسهام مالي من ملك الأردن مباشرة»، مُضيفًا: «حدث ذلك بتوافق فريد من نوعه بين الطوائف في الكنيسة التي تصارعت كثيرًا فيما بينها طيلة سنوات».
من جهته أكد مدير الأملاك الوقفية في أوقاف القدس، ناجح بكيرات، على أن أي ترميم في البلدة القديمة، «مهم جدًا»، وأنه بمثابة «تجديد للتناغم الإسلامي المسيحي، الذي يرجع إلى العهدة العمرية، وهو مشروع صمود في وجه الاحتلال وفي وجه تهويد المدينة»، على حد تعبيره.
وأضاف: «حينما يمنع الترميم في المسجد الأقصى في محاولة إسرائيلية لطمس لهوية، يأتي ترميم المكان كرسالة صمود في ظل تهويد ومصادرة المدينة، على البطارقة والمطران وكل الذين يزورون كنيسة القيامة أن يدركوا بأن الكنيسة محاصرة وأسيرة وبحاجة إلى من يأتي إليها».
واعتبر بكيرات أن الترميم، هو بمثابة «رسالة للاحتلال، تؤكد على الحفاظ على التراث المسيحي الموجود في المدينة، فغياب ترميم هذه الأماكن هو غياب للإنسان والفكر، وترميم هذه المعالم سيعيد ربط الوجود المسيحي في المدينة لأنها مدينة عربية وإسلامية»، على حد قوله.
ساسة بوست
↧