عشرة أيام قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية كانت المرشحة كلينتون في طريق مفتوح لفوز غير صعب، إذ كان الفارق بينها وبين منافسها في الاستطلاعات يتوسع يوما بعد يوم. فقد تفوقت في المناظرات الرئاسية الثلاث ونجحت بمساعدة من الإعلام في تركيز الأنظار على نقاط قوتها المتمثلة في خبرتها الواسعة، مقابل انعدام الخبرة لدى منافسها، وعدم أهلية ترامب لرئاسة أميركا بسبب شطحاته وتهوره في المواقف والتصريحات. وبدا أن كلينتون نجحت في تجاوز المعضلة الرئيسية التي صعبت فوزها على مرشح نكرة سياسيا وعديم الخبرة، إذ لم يتولى في حياته أي مسؤولية في الدولة ولا حتى في الحزب: الشك في نزاهتها والذي تعود جذوره إلى تعاطيها مع فضائح زوجها الأخلاقية عندما كان رئيسا، وتعاملها عندما كانت وزيرة للخارجية مع الهجوم على السفارة الأميركية في بنغازي والذي قتل فيه السفير الأميركي، وتهاونها في حفظ أسرار الدولة باستعمالها لبريدها الإلكتروني الشخصي بدل الرسمي واتهامها بحجب معلومات عن المحققين الذين لم يجدوا ما يستوجب مقاضاتها. كان فوز كلينتون شبه مؤكد، وكان شبح اليأس يخيم على حملة ترامب التي بدأت عاجزة عن تجاوز آثار الزلزال الذي أحدثه تسريب لترامب يعترف فيه بتحرشه بالنساء مما ثبت عليه تهمة ازدراء المرأة، ثم خرج على الإعلام عدد من النساء الواحدة تلو الأخرى يروين تجاربهن السيئة مع ترامب ومعاملته المسيئة لهن.
فجأة يرسل مدير مكتب التحقيق الفدرالي في سابقة لا تبدو بريئة رسالة إلى الكونغرس يعلمه بنيته إعادة فتح التحقيق في قضية البريد الإلكتروني لكلينتون بعد أن اكتشفوا صدفة بعض مراسلاتها الإلكترونية في كمبيوتر زوج مساعدتها المقربة هوما عابدين، وهو شخص متهم بقضايا أخلاقية مقرفة. كانت ضربة في مقتل وفي توقيت قاتل. إذ أعادت إلى الأذهان وإلى السطح صورة كلينتون المتهاونة وغير النزيهة وبالتالي غير الجديرة بثقة الناخب (والتي كانت من ركائز حملة ترامب) ففقدت ميزة الأهلية، وعادت الانتخابات إلى المربع الأول: الاختيار بين خيارين أحلاهما مر، أو بين السيء والأسوأ، ولم يبق من الوقت ما يكفي للتدارك، حتى بعد أن تمت تبرئة كلينتون قبل يومين من الانتخابات، فالضرر قد حدث وحملة ترامب عادت فيها الحياة وأنصاره عادت لهم الحماسة، والفارق في الاستطلاعات عاد ضئيلا كما كان، وشتان في سرعة الانتشار والتغطية الإعلامية بين خبر الفضيحة وخبر التبرئة أو التوضيح. وربما أعادت الضربة إلى الأذهان ذكريات فضائح بيل كلينتون الأخلاقية، والتي استمات ترامب في إحيائها في الأسابيع الأخيرة في محاولة يائسة للتغطية على فضائحه. لا شك أن هذا كان السبب المباشر في الفوز المفاجئ لمرشح عديم الخبرة وبحسب أغلبية الأميركيين فاقد للأهلية ليكون رئيسا، حتى أن بعض قادة حزبه البارزين امتنع عن تزكيته أو زكاه على مضض وبعد طول تردد، ومنهم من جاهر بدعم كلينتون. لكن هذا السبب المباشر لم يكن صانعا للفوز بل كان عاملا مساعدا، لولاه لم يكن ترامب ليفوز على المرشحة الرئاسية الأكثر خبرة في تاريخ أميركا المعاصر، في أغرب انتخابات رئاسية أميركية حيث تنافس فيها مرشحان لا يحظيان بأي شعبية، وذهب فيها الناخبون ليصوتوا ضد مرشح وليس لصالح مرشح. وقد أصاب المحلل السياسي الذي قال إن ترامب هو المرشح الجمهوري الوحيد الذي يمكن لكلينتون أن تهزمه، وكلينتون هي المرشحة الديمقراطية الوحيدة الذي يمكن لترامب أن يهزمها. وفي ما يلي بعض الأسباب والعوامل التي تظافرت لتحدث المفاجأة: - هيلاري هي الضحية الثانية لفضيحة زوجها الأخلاقية (قضية مونيكا لوينسكي)، والتي كاد بموجبها أن يعزل من الرئاسة. فقد خسر بسبب تلك الفضيحة آل غور الذي كان نائب بيل كلينتون الانتخابات الرئاسية أمام جورج بوش الذي لم يكن يختلف جوهريا عن ترامب. وقد كثر اللغط حول تعاطي هيلاري مع هذه المسألة، وأضر ذلك بصورتها. - التصويت لصالح الحرب الكارثية على العراق كان عاملا حاسما في هزيمة هيلاري في الانتخابات التمهيدية أمام أوباما سنة 2000، ولعل لعنة ذلك التصويت لاحقتها في هذه الانتخابات.
- الاختلاف الكبير بين الحزبين الرئيسيين في أميركا. فالحزب الجمهوري كالأحزاب العقائدية في الدولة العربية شديد التماسك والانضباط. أعضاؤه لا يحتاجون لجهد كبير للمشاركة في الانتخابات وللتصويت لمرشحهم أيا كان، وهو حزب يضم أغلب المتدينين وأجندته أوضح من الحزب الديمقراطي الذي هو عبارة على ائتلاف مجموعة من القوى تجمعها بعض المبادئ العامة، ويحتاج مرشحه إلى جهد أكبر بكثير لتحميس أعضائه الذين هم أكثر تحررا من الجمهوريين وإقناعهم بالتصويت وبنفسه، وهذا اختبار أعفي منه ترامب وأخفقت فيه كلينتون، مما أجبر داعميها وعلى رأسهم أوباما على التركيز في الأسابيع الأخيرة على حث أنصارهم على التصويت.
المصدر: الجزيرة نت