تأمل الحكومة السورية أن تتمكن في المستقبل من محاصرة معاقل المعارضين المتحصنين بحلب وتضييق الخناق عليهم، لكن قوات الجيش التابعة لبشار الأسد لا تتولى زمام الأمور في هذه المعركة، ولم تكلف الحكومة السورية الجيش السوري بقيادة هذا الحصار الوحشي، لأنها تعول على الآلاف من المقاتلين في الميليشيات الشيعية لتنفيذ هذه المهمة، وتتكون هذه الميليشيات من شيعة موالين لإيران، التي تُعتبر أقوى حليف للأسد، الذين يتوافدون في الأصل من لبنان والعراق وباكستان وأفغانستان.
إن هؤلاء المقاتلين الذين دفعتهم حماستهم الدينية إلى الدخول في غمار هذه الحرب، عززوا قوات الجيش السوري الذي أصابه الضعف والوهن في السنوات الأخيرة، أما في الوقت الراهن، فهم يلعبون دورًا مهمًا في قيادة محاولات الاستيلاء على مدينة حلب التي تسيطر عليها المعارضة شرقًا، من خلال تنسيق الهجمات مع القوات الحكومية والطائرات الحربية الروسية، وبالإضافة إلى إيران، فإن النظام يتلقى دعمًا إضافيًا من قبل حليفه الروسي وهو ما سمح له بشن هجوم عنيف في شمال سوريا الأسبوع الماضي، مما تسبب في المزيد من الدمار في شرق حلب، أكبر المدن السورية قبل الحرب.
كما شنت الحكومة السورية، الأسبوع الفارط، هجومًا على المناطق السورية الشمالية مدعومة بالقوات الجوية الروسية، ونتج عن القصف العشوائي دمار كبير لحق الجزء الشرقي من حلب التي تعتبر أكبر المدن السورية.
وفي هذا السياق، قال الخبير في المليشيات الشيعية فيليب سميث، التابع لمؤسسة واشنطن لسياسة الشرق الأقصى: "الميليشيات الشيعية تعقد تحالفات مثيرة للشبهات على أرض الميدان، وهي بذلك تعزز من النفوذ الإيراني المتنامي في المنطقة حيث يعدّ ذلك مؤشرًا مقلقًا بالنسبة للقيادات السورية".
وأضاف سميث أنهم "يسعون لتشكيل تكتل قوي في هذه المنطقة، وسيظلون في المنطقة حتى بعد انتهاء الحرب ليضمنوا استمرارية هيمنتهم العسكرية والإيديولوجية في سوريا، ويساهموا في توسيع رقعة نفوذ إيران، لكن الأسد في الوقت الراهن لا يستطيع القيام بأي شيء حيال هذا الأمر، فليس بإمكانه الحد من التأثير المتنامي لهذه المجموعات على الرغم من مخاوف المسؤولين في النظام، لأن هؤلاء المقاتلين هم بمثابة الرادع الوحيد للمعارضة من الإطاحة بنظامه".
ويشير بعض المحللين السياسيين إلى أن إيران تستخدم هذه المليشيات الشيعية منذ فترة طويلة في عدة أقطار عربية لاستعراض قوتها، وتشتمل هذه المجموعات على فصائل متعددة تهيمن على الساحة السياسية العراقية، فضلاً عن ميليشيا حزب الله اللبناني التي تفوق قوته العسكرية الجيش اللبناني، ولئن أعربت الإدارة الأمريكية عن استيائها من إيران والميليشيات الشيعية الموالية لها، فإن كلا الطرفين يشتركان في محاربتهما لتنظيم الدولة في العراق وسوريا، لكن يبدو أن الصراع بين طهران وواشنطن سيحتدم لتضارب مصالحهما في سوريا، خاصة وأن المعارضة تتلقى التمويل المادي والعسكري من واشنطن وحلفائها.
وقد عبر المتابعون للشأن السوري أنه من المحتمل أن تجد إيران نفسها في منافسة مباشرة مع روسيا في سباق بسط النفوذ في سوريا، كما أن وجود الميليشيات الشيعية في سوريا قد غذّى النزاع الإقليمي والديني القائم بين إيران والمملكة العربية السعودية، التي تدعم المعارضة السورية، ويظل السؤال المطروح في ظل حرب الوكالة يدور عن الضريبة التي سيدفعها النظام مقابل هذا الدعم.
وأفاد فواز جرجس وهو أستاذ جامعي متخصص في سياسة الشرق الأوسط والعلاقات الدولية في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، أنه إذا كانت الحكومة السورية قادرة على محاصرة حلب، فإن إرساء مثل هذا التوازن الإقليمي يعتبر ورقة رابحة لإيران، لكنه يبدد آمال السعودية وطموحات المعارضين الذين اتخذوا من المناطق الشرقية معاقل لهم منذ سنة 2012، كما أورد جرجس أن هزيمة المعارضين في حلب ستكون بمثابة نقطة تحول في الصراع السوري، لأن ذلك سيؤدي إلى سيطرة الأسد على أغلب المراكز الحضرية في سوريا، وسينجر عن نصره انتكاسة للسعودية في ظل المنافسة الشرسة بينها وبين إيران التي تسعى إلى تنامي نفوذها في سوريا".
قادت العشرات من المليشيات الشيعية عمليات فرض الحصار الوحشي على المدن المناهضة للنظام وتركت أكثر من 200 ألف مواطن يواجهون مصيرًا مجهولاً بسبب نقص الغذاء والأودية، علاوة على القصف المتكرر للمرافق الصحية ومناطق العمران والبنى التحتية في المنطقة، ويستمر القصف العشوائي على المعارضين الذين يتخذون من المدنيين دروعًا بشرية للاحتماء من القوات التابعة للنظام، كما أقدم المعارضون خلال هذا الأسبوع على كسر الحصار لكن محاولاتهم باءت بالفشل لأنهم وجدوا القوات الروسية الجوية والمقاتلين الشيعة على الأهبة لتقف لهم بالمرصاد.
وصرح أحد أعضاء المعارضة السورية، زكريا ملحفجي، أنهم "يقاتلون بشغف ووفقًا لخطط هجومية مدروسة"، وأضاف قائلاً: "أتذكر في إحدى المعارك كيف كانوا يسقطون في ساحة الوغى الواحد تلو الآخر دون أن يغادروا مواقعهم، كما كان كل واحد فيهم يكلف الآخر بتسلم مكانه قبل أن يموت، وهكذا دواليك، وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على حماسهم".
لم تظهر القوات الموالية للحكومة السورية أية علامة على تباطؤ نسق هجماتها على المدينة رغم الجهود التي يبذلها ستيفان دي ميستورا مبعوث الأمم المتحدة إلى البلاد التي مزقتها ويلات الحرب، لوقف القتال الدموي في سوريا، وفي هذا السياق، عبّر وزير الخارجية السوري وليد المعلم، يوم الأحد عن رفضه لمقترح دي ميستورا الذي يفضي إلى قبول انسحاب مقاتلي المعارضة من شرقي حلب مقابل تهدئة الأوضاع، وذكر أن العرض المقدم لم يكن يستحق التفكير، لأن غاية الحكومة تتمثل في استعادة المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، وهذا في حد ذاته يُعتبر مسألة حاسمة "للسيادة الوطنية"، كما أن "المسؤولين الحكوميين قد اتفقوا على أن انسحاب المعارضين من شرقي حلب، سيضع حدًا لمعاناة المدنيين في المدينة".
وتجدر الإشارة إلى أن ظهور المتشددين السنة التابعين لتنظيم الدولة وبقية الجماعات المتطرفة الأخرى مثل تنظيم القاعدة، قد ألقى بظلاله على الثورة ضد الأسد التي كانت منذ البداية سلمية قبل أن تتحول إلى حرب ضروس بعد سنة 2011 نظرًا لتعدد الأطراف المتدخلة فيها، بالنسبة للثوار، كانت المليشيات الشيعية المدعومة من قبل إيران تعدّ بمثابة جماعات إرهابية متشددة، ووفقًا لما ورد على لسان أحد علماء الدين المنتسبين إلى المعارضة عبد المنعم زين الدين، فإن "هذه الميليشيات تسعى إلى بسط نفوذ إيران في المنطقة ونشر إيديولوجيتها المتطرفة، على خلاف ثورتنا التي لم تتخذ أبعادًا دينية، لأنها كانت ثورة من أجل تحقيق الحرية والكرامة".
أما من وجهة نظر المقاتلين الشيعة، فإن مشاركتهم في هذه الحرب الأهلية لم تكن سوى محاولة منهم للدفاع عن المقدسات الشيعية في البلاد ومحاربة الجماعات السنية المتطرفة، وفي نفس السياق، صرح أحد أعضاء حركة النجباء، هشام الموسوي: "إننا لا نريد التسبب في موجات عنف طائفي بل نريد حماية سوريا وكل المقدسات من الجماعات الإرهابية الممولة من قبل المملكة العربية السعودية وتركيا وقطر والولايات المتحدة الأمريكية".
وما يزيد من تردي الأوضاع الأمنية، عدم معرفة العدد الصحيح للميليشيات الشيعية وفصائلها المشاركة في معركة حلب، إذ أكد رئيس لجنة الشؤون الخارجية والدفاع الإسرائيلي آفي ديختر، أن عدد المقاتلين الشيعة في سوريا يصل إلى نحو 25 ألف مقاتل، بينما نفى محللون آخرون هذه الأرقام لأن عددهم أقل بكثير من ذلك، كما ينبغي أيضًا تسليط الضوء على المخابرات الإسرائيلية التي تراقب عن كثب مستجدات الحرب في سوريا، وعلى وجه الخصوص، دور حزب الله في الصراع، الذي خاض حربًا مدمرة مع القوات الإسرائيلية سنة 2006.
لكن وفقًا للمعطيات التاريخية، فإن تدخل حزب الله في سوريا بالإضافة إلى بقية المليشيات الشيعية الأخرى التي لا تنفك إيران عن دعمها عسكريًا وماديًا، ستكون له عواقب وخيمة لأن ذلك من شأنه أن يزيد فترة الحرب ويعمق الصراع القائم في البلاد.
هوغ نايلر- واشنطن بوست- ترجمة نون بوست
↧