على الرغم من وجاهة الأسباب المتداولة حول الانهيار المفاجئ في دفاعات المعارضة وانسحابها أمام تقدم المليشيات البري؛ من اتباعها لسياسة الأرض المحروقة واستحالة بقاء المعارضة في مواقعها أمام الكم الهائل من النيران المعادية جواً وبراً، والأعداد الكبيرة من المقاتلين الذين زجت بهم مليشيات "حزب الله" اللبناني و"حركة النجباء" العراقية والأفغان و"الحرس الثوري" الإيراني و"القوات الخاصة" الروسية. إلا أن كل ذلك غير كافٍ لتفسير ما حدث بالضبط.
فالمعارضة خسرت 10 أحياء في القسم الشمالي من حلب الشرقية، مطلع كانون الأول/ديسمبر، في وقت قياسي، لصالح مليشيات النظام و"وحدات حماية الشعب" الكردية. الصدمة ساهمت في انهيار جزئي في صفوف المعارضة، وأثرت بشكل سلبي على معنوياتها ومعنويات حاضنتها الاجتماعية.
ومن المفترض أن تكون الأحياء الشمالية -بوابة الدخول الأولى للمعارضة نحو قلب المدينة منتصف العام 2012- من أكثر المواقع المحصنة والموالية للمعارضة والتي صدّرت أعداداً كبيرة من المقاتلين الذين انضموا لفصائل مختلفة خلال السنوات الماضية. وكان القسم الشمالي يفيض بعدد كبير من المقرات العسكرية والمحاكم والهيئات المدنية والخدمية التابعة للمعارضة، خصوصاً حي مساكن هنانو الأكبر، ذي الطراز العمراني الحديث والمتين والذي كان من الممكن أن يساعد المعارضة على الاحتماء من الضربات، جوية كانت أو مدفعية وصاروخية
إلا أن الأيام الأولى من تقدم المليشيات في الأحياء الشمالية، في مساكن هنانو ومحيطها، أثبتت أن المعارضة كانت مُخترقة على أكثر من صعيد، وهناك عملاء للنظام و"وحدات الحماية" الكردية، ممن كانوا ينقلون الصورة بحذافيرها عن وضع المعارضة ميدانياً، وأعداد مقاتليها ومواقع تمركزهم، وكميات الذخائر وشكل التحصينات الهندسية التي كانت شبه معدومة، بطبيعة الحال.
الدلائل أشارت إلى أن الاختراقات موجودة، إذ حصلت رمايات جوية ومدفعية وصاروخية، على معاقل ومقار المعارضة المتقدمة قرب جبهات القتال، بدقة عالية، خسرت على إثرها المعارضة عدداً من مقاتليها. الأمر الذي أثر بشكل سلبي على معنوياتها التي انهارت بشكل تدريجي بسبب الفوضى، ووقوعها فريسة ثلاث قوى؛ مليشيات النظام، و"وحدات الحماية"، والخلايا التي تسببت بالفوضى بين صفوفها في مناطق سيطرة المعارضة.
القائد العسكري في "جيش المجاهدين" النقيب أمين ملحيس، أكد لـ"المدن"، أن النظام عمل بشكل مكثّف على العامل النفسي، وبث الروح الانهزامية لدى مقاتلي المعارضة والمدنيين على حد سواء، خلال الأيام الأولى من الهجوم البري العنيف والقصف المتواصل الذي روع المدنيين وأفزعهم. ودفع ذلك الناس إلى الخروج حتى إن كان ثمن ذلك الاعتقال والمصير المجهول.
وبالطبع كان للخلايا التابعة للنظام في المناطق الخارجة عن سيطرته دور في بثّ الروح الانهزامية، وإشاعة الفوضى، ناهيك عن تزويد النظام بمعلومات عسكرية مكنته من مفاجأة المعارضة في أكثر من موقف.
وأشار النقيب أمين إلى أن المعارضة اتخذت خطوات احترازية لعدم تكرار الفوضى التي حصلت، وقطع الطريق على العملاء إن بقي منهم أحد، لأن معظمهم فرّ إلى مناطق النظام، ومنهم من التحق بصفوف مليشياته، وآخرين استقروا في مناطق سيطرة "وحدات حماية الشعب" الكردية في الشيخ مقصود وعين التل وغيرها من الأحياء التي تمددت إليها "الوحدات" بعدما تقاسمت السيطرة على القسم الشمالي من الأحياء الشرقية المحاصرة مع النظام.
ويشير النقيب أمين إلى أن الهدف الرئيس من اجراءات المعارضة التي من المفترض أن تمنع تكرار السيناريو الماضي، هو حماية المدنيين الذين بقوا في الأحياء الخاضعة لسيطرة المعارضة، وتحديداً فئة الشباب لأن كثيراً ممن غادر نحو مناطق سيطرة النظام، قد اعتقل، إذ كانوا يعتقدون، بحسب النقيب أمين، أن النظام سوف يصدق ويتركهم وشأنهم بحسب دعايته التي كان يروّجها في الأحياء الشمالية الشرقية من المدينة.
وربما كان حال الذين توجهوا نحو مواقع سيطرة "وحدات الحماية" أفضل كثيراً ممن بقوا في منازلهم ينتظرون مليشيات النظام لتسيطر على الأحياء التي يقطونها، أو من أولئك الذين توجهوا إلى مناطق سيطرة النظام، وهم بالآلاف خلال الأسبوع الماضي. ورغم توثيق حالات اعتقال، وإعدام ميداني لبعض الأشخاص من قبل مقاتلي "وحدات الحماية"، إلا أن عدداً كبيراً من العائلات تمكن من العبور من مناطق سيطرتهم في حلب إلى عفرين ومنها إلى ريف حلب الشمالي بعدما دفعت مبالغ مالية، ليست بالكبيرة.
الناشط الكردي، مشعل ابراهيم، وصف لـ"المدن" ما جرى بالمشهد المتوقع، لأن بقايا "جيش الثوار" المنضمة إلى "وحدات حماية الشعب" الكردية تحت مظلة "قوات سوريا الديموقراطية" كانت جاهزة لتنفيذ المهام الموكلة إليها في الأحياء المواجهة لحي الشيخ مقصود؛ في عين التل وبستان الباشا والشيخ فارس والحيدرية، والانقضاض على المعارضة في الوقت المناسب.
وأشار ابراهيم إلى أن موالين لتنظيم "الدولة الإسلامية" -قبل طرده من المدينة- شوهدوا مع مليشيات النظام أثناء السيطرة على القسم الشمالي من الأحياء الشرقية المحاصرة، ومن بينهم أفراد من عائلة غول أغاسي "أبو القعقاع" المعروف بعمالته للنظام الذي قتله منذ سنوات. بالإضافة إلى شخصيات معروفة في حيي الصاخور والحيدرية، لها حضور اجتماعي كبير.
وكانت بعض المؤسسات الخدمية المعارضة كـ"مجلس المدينة" ومجالس الأحياء، مخترقة، إذ التحقت شخصيات معروفة منها كانت تتقلد مناصب اعتبارية وتنفيذية في صفوف المعارضة، بالنظام، فور فتح ممرات لخروج الناس الذين ظهر أن بعضهم على دراية أيضاً بأن هناك مخرجاً سيفتح قريباً. كل ذلك بالطبع بفضل الشبكات النشطة التي كانت تهييء نفسها للمرحلة الجديدة.
والمفاجأة أن أعضاء من "مجلس مدينة حلب الحرة"، الذي يعتبر أعلى هيئة مدنية معارضة في المدينة تقدم الخدمات وترعى شؤون المدنيين، قد وصلوا مع عائلاتهم إلى مناطق سيطرة النظام في حلب الغربية، ومن بينهم عضو "المجلس المحلي لمدينة حلب" المهندس محمد حيو، وعضو المجلس المنتسب لهيئة "محامو حلب الأحرار" المحامي محمود حيو، بالإضافة إلى رئيس "دائرة الصيانة" في "المجلس المحلي" المهندس عبد الرزاق الحسين.
مجالس الأحياء كان لها نصيب أيضاً، حيث التحق رئيس "مجلس ثوار القاطرجي" مازن الشيخ، بمناطق سيطرة النظام، ومثله شخصيات معروفة في الأحياء الشرقية تعمل في أعمال إغاثية وطبية وقضائية. وغيّر معظمهم من ملامحه المعتادة، وحلق أغلبهم الذقون التي كانت السمة الغالبة عليهم. وتؤكد مصادر أن بعض الأشخاص تم القاء القبض عليهم بعد أن غيّروا ملامحهم ممن كانوا ينوون دخول مناطق سيطرة النظام، ومعظمهم موظفون في دوائر رسمية معارضة خدمية وتعليمية وغيرها.
مدير "مكتب المتابعة" في الجيش السوري الحر في حلب باسم الحلبي، في حديثه لـ"المدن"، قلل من أهمية ما حدث، وأكد أن العامل الحربي هو السبب في خسارة المعارضة لعدد كبير من الأحياء. وبرأيه فقد تمتعت المليشيات بدعم ناري كبير مكّنها من التقدم، وحرم المعارضة من امكانية الصمود أكثر في مواقعها. واعتبر الحلبي أن الانشقاقات التي حدثت تصرفات فردية سيدفع أصحابها الثمن لأنهم ظنوا بأن النظام سيكافئهم على فعلتهم.
الحلبي أوضح أن جزءاً من المدنيين الذين صوّرهم إعلام النظام في وسائل إعلامه، معبرين عن فرحتهم بدخول مليشيات النظام أو الوصول إلى مناطق سيطرته، كانوا بالأصل موالين للنظام ينتظرون هذه اللحظة منذ سنوات. أما الغالبية العظمى من المدنيين الذين أجبروا على الخروج وسلكوا طريق العودة إلى "حضن الوطن" لأن ما من خيار آخر لهم في ظل الجوع والحصار والقصف المستمر الذي قتل وجرح أكثر ثلاثة آلاف شخص في أسبوعين فقط، بعدما عانى الآلاف من ظروف إنسانية صعبة. الحلبي أشار إلى أن هناك عائلات بأكملها "علمنا أنها اعتقلت وتم اقتيادها لفروع الأمن في حلب".
ولا يمكن حسم عمالة كل العائدين إلى سلطة النظام في حلب، أي العاملين في القطاعات الخدمية والثورية المختلفة للمعارضة. فالوضع في الداخل الحلبي المحاصر مأساوي للغاية، ويعود قرار العودة إلى "حضن النظام" لدى كثيرين من العائدين إلى اعتبارات السلامة والكفاف لعائلاتهم على أقل تقدير، والخروج من الجحيم الذين كانوا يعيشونه بفعل آلة الموت المسلطة على رؤوسهم.
وفي الوقت ذاته، لا يمكن إغفال دور الخلايا المجندة لصالح مليشيات النظام و"وحدات الحماية"، في انهيار القسم الشمالي من الأحياء الشرقية. فالشخصيات التي تم ذكرها كانت تصول وتجول في مناطق المعارضة وتفرض رأيها في أكثر الأمور حساسية وهي تعرف تماماً كل شيء عن المعارضة؛ خططها ومشاكلها والصعوبات التي تواجهها في ظل الحصار، وكذلك معسكراتها ومستودعات تموينها. وأياً تكن النوايا لدى المنشقين، فإنهم أضروا بشكل كبير بالمعارضة في هذا الوقت الحرج، بعدما أثبتت التطورات الأخيرة أن صفوف المعارضة واهنة وسهلة الاختراق. ولا يقتصر الأمر على الجانب العسكري الذي لطالما كان المعارضون يلقون اللائمة عليه عند كل نكسة.
وتتراشق المعارضة في الكواليس الاتهامات حول مسببات ما جرى، وكيف دخل هؤلاء جسم المعارضة؟ وعينوا في مواقع حساسة في قطاعات مختلفة؟ البعض يتهم "الاخوان المسلمين" ويحملهم جزءاً من المسؤولية بسبب استقطاب شخوص أياً تكن خلفياتهم على أن يقدموا الطاعة، وتحقق الجماعة من خلالهم الوجود والغلبة على التيارات الأخرى في المجالس والهيئات الصورية والتنفيذية. والبعض راح يتهم هيئات كـ"محامو حلب الأحرار" و"مجلس المدينة"، لضمّها شخصيات تاريخها مجهول، تم اختيارها بغض النظر عن المعايير الواجب توفرها، كالولاء للثورة ومؤسساتها.
almodon
↧