لا يخفى على أحد الجموع الغفيرة من المسلمين التي تحضر الخطب والدروس في المساجد والحلقات، وتشاهد على الشاشات وتقرأ في الكتب لرجال دين يبثون الهذيان والخوف الكراهية والتخريف في العقل الجمعي للمجتمع؛ تارة باسم انتصار الايمان على الكفر وولاية المسلم وأفضليته على غيره من البشر، وأخرى باسم الخشية من العقاب والموت وعذاب القبر وجهنم، وثالثة باسم الاعجاز العلمي، وغيرها من العناوين التي تستخدم متلازمة الايمان والتسليم و الثواب والعقاب للسيطرة على الجموع.
ويعجب المسلمون بالكلام ويتناقلونه ويتعظون به، دون أن يسمعوا كلمة واحدة خارج اطار التعبئة العقائدية، أو تهدف لشدّ أواصر المحبة بين البشر، أو تحفيز تقديم الخير للبشرية من غير المسلمين، لكنهم في نهاية المطاف يتمتعون بجرأة غريبة على القول أن ديننا -بهذا الشكل- هو الحق والصواب وفيه الخير للبشرية جمعاء.
ولأنه ما من رادّ لهم وعليهم، وسط مجتمع ايماني سيطرت فيه حالة الطقوسية على المحاكمة العقلية، ولأنه طابت لرجال الدين حالة المريدين من حولهم، والذين يصدقون أي شيء تستطيع ربطه بـ (قال الله وقال الرسول)، أسهب رجال الدين في تكريس الأفكار الإيمانية والتعبديّة التي تخدّر العقل وتجعله يعيد تفسير كل الظواهر والسلوكيات على اساس ايماني غيبي صرف، لا مكان فيه للعقل والتعليل.
وللحفاظ على مكاسبهم الجهوية والتربّحية، أسهب رجال الدين أيضاً في تكريس أفكار التبعية للـ (العلماء.!) وجعلها جزءاً من الايمان، وتقزيم العقلاء والناقدين وتسفيههم، وتحويلهم إلى خصوم ومجدفين و (أعداء للدين)، ورفعوا سوط العقاب الإلهي والاتهام بالانحلال والتفلّت وحتى الكفر في وجه كل اولئك، واستعدوا الناس ضدّهم حتى حوّلوا المؤمنين إلى (شبيحة) يتحفّزون لسب وشتم وتكفير -وربما قتل- كل من يعتقدون أنه (يتطاول) على الدين ورموزه، ومن رموزه طبعاً رجال الدين أولئك الذين يكفي انتقادهم لاعتبار ذلك اعتداءً على الدين نفسه..!!.
سأدلف هنا إلى عقد هذه المقارنة من خلال مشاهداتي لشكل ودور الممؤسسة الدينية المسيحية في الولايات المتحدة حيث أعيش.
المتتبع للأمر سيلاحظ أن الكنائس في هذه البلاد تحولت من نقاط سيطرة، إلى نقاط اجتذاب، بمعنى أن الكنائس لا تعتمد اسلوب الترهيب والترغيب لجذب الناس إلى الكنيسة، بل هي تفعل المستحيل لجذب الكنيسة للناس، فبالاضافة لنشاطاتها الدينية، تقيم الكنائس المناسبات غير الدينية من احتفالات ومناسبات تخص أدياناً أو قوميات أخرى، ودورات تعليمية بعيدة كل البعد اللاهوت، وتنظم نشاطات للأطفال وكبار السن، وتقوم بنشاطات انسانية و تطوعية وحقوقية تكرس صورتها أمام الناس كمؤسسة تنتج قيماً انسانية وسلوكية حقيقية، وليس فقط طقوساً دينية.
وفي ظل غياب الدعم الحكومي للكنيسة ولأي مؤسسة دينية بسبب قوانين دستورية تمنع على الدولة تمويل المؤسسات الدينية، فإن رجال الكنيسة مضطرون دوماً للبحث عن مصادر تمويل بديلة من التبرعات وتنظيم النشاطات، ولأن المجتمع الأمريكي بالمجمل متحرر من العقد والانتماءات الغيبية ولا يمكن السيطرة عليه بأساليب بدائية غرائزية، فإنه لن يتبرع أحد لجعل (كلمة المسيح هي العليا..!!)، بل قد يفعل عندما يجدها -الكنيسة- تقدم ما هو مفيد لأطفاله وللناس علمياً أو سلوكياً، أو تعزز قيماً اجتماعية انسانية متفقة مع القوانين الحداثية، فعندما يرى الأمريكي أن الكنيسة تقوم بنشاط لتنظيف مجرى نهر أو زرع ورود، فلن يتورّع عن ارسال ابنه للمشاركة، حتى لو كان غير مسيحي، وهذا ما يفسّر كون أكبر شبكة مراكز لتعليم اللغة الانكليزية للوافدين واللاجئين الجدد لأمريكا (وكثير منهم من غير المسيحيين) هي الكنائس، حيث تجد هناك المسلمة المحجبة والبوذي المتدين، وتجد المكسيكي الفقير، والمضطهد الافريقي، وكلهم تتم مساعدتهم وتقديم العون لهم من قبل الكنيسة دون أن تستخدم حاجاتهم لاستمالتهم في سبيل تغيير قناعاتهم ومعتقداتهم .
على مدى سنوات وعقود، ونتيجة لغياب الأفضلية و القداسة في مجتمع حرّ يناقش كل شيء، ويُخضع كل الأفكار للتقييم دون خوف من عقاب مجتمعي أو قانوني، أثّر الأمر برجال الدين عكسياً وحوّل مهمتهم وهدفهم من السيطرة على الناس، إلى محاولة ارضائهم وتلبية احتياجاتهم ومتطلباتهم، وهو ما جعل الكنيسة الغربية أكثر قدرة على مواكبة العصر، والتكيّف مع متغيراته، وأصبح الدين المسيحي (الغربي) بالمجمل أكثر تجدداً وعصرنة، وانتقل من الحياة التعبدية الصرفة إلى مؤسسات تنموية ومحفّزة .
وإذا ما أسقطنا هذا الأمر على واقعنا، سنجد أن المؤسسة الدينية الاسلامية ما تزال عاجزة عن الوصول إلى المرحلة المتقدمة التي وصلت لها الكنيسة الغربية، فطالما الناس يذهبون ذرافات إلى المساجد بشكل طقوسي بحت كنوع من الواجب الجماعي بغض النظر عما يقدمه ذلك لهم ولمستقبلهم، وطالما يتحشّدون خلف رجل الدين لمجرد أنه رجل دين، ويقبلون تغييب عقولهم وسماع هذيانهم، ويقدمونهم صفوفهم ومجالسهم ويمنحونهم الوصاية والغلية، و طالما يقبلون بالتحوّل إلى مريدين لهم كيفما اتفق، وطالما ما نزال نظن أن رجل الدين هو بما يحفظه من معلومات وما يتقنه من براعة في الخطابة، فإن شيئاً لن يتغير، وستبقى بلاد المسلمين بالحال المزرية التي تعرفونها.
شخصياً دعيت وعائلتي على مدى عامين لطعام افطار رمضاني في إحدى كنائس واشنطن، وسمعت آذان الافطار وتلاوة القرآن في قلب الكنيسة، وشاهدت دموع المصلين تأثراً بقصص السوريين، وأرسلت ابنتي لتعلم اللغة هناك، وتطوعت زوجتي ببعض نشاطات الكنيسةالانسانية، ولم يكلمنا أحد بالتحوّل للمسيحية أو يبادر بتحبيبنا بها، ولسنا في وارد التفكير في ذلك حتى، ولكنني طوال الوقت كنت أفكر بالمقارنة إياها، هل رأينا في مساجدنا يوماً مساعدة أو اغاثة تقدّم لغير المسلمين، أو هل حتى سمعنا دعاءً لهم بالخير ورفع الظلم..؟!!
وكي لا نظلم الاسلام لوحده، فإن الكنيسة المشرقية في بلادنا ينطبق عليهم ذات توصيف المشهد الاسلامي أعلاه، فالمسيحية المشرقية مغرقة بالعنصرية ومشبعة بالطقوسية، وتتبع ذات أساليب السيطرة على جموع المؤمنين، وهو ما يؤكّد أن المشكلة ليست فقط دينية، بل مجتمعية وثقافية بالمرتبة الأولى، ولها علاقة بطبيعة الناس في منطقتنا وسهولة قيادتهم لاهوتياً.
الخلاصة التي أستطيع الخروج بها مما سبق أعلاه:
عندما يتبع الدين الناس يتطور الدين ويتطور الناس، وعندما يتبع الناس الدين يتخلّف كلاهما.
↧