
نسرين طرابلسي
الكهف، آخر النساء في الغوطة
بينما شغل فيلم الجوكر الناس وملأهم بالإعجاب والدهشة والجدل، تم في لندن عرض فيلم الكهف للمخرج السوري فراس فياض وهو فيلم ينقل بالصوت والصورة تفاصيل ما كان يحدث في مستشفى الكهف في الغوطة الشرقية في خضم الحرب والحصار من عام 2016 -2018، ليملأ الصالة التي تغص بالحضور بهول الحقيقة والواقع.
لم أر في حياتي فيلما وثائقيا، غير 3D ، يكاد يدخل المشاهد في أحداثه ومجرياته ويشعره بالرعب والرجفة مع كل غارة طيران وكل انفجار، يكاد الدخان يتغلغل في أنفاسك ولزوجة الدم تعلق على جفنيك. كراسي الصالة كانت ثابتة لكن الفيلم زلزل الأرض تحت أقدمنا فلم أعرف من الذي كان ينتفض من البكاء أنا أم جيراني في المقاعد.
الرعب، كلمة واحدة تلخص فترة أطول حصار عاشته منطقة على وجه الأرض عبر التاريخ، لكنهم أهلنا وناسنا ونحن السوريون لم نكن الوحيدين الذين لم يكبحوا دموعهم أمام الفظائع التي ارتكبت بحق المدنيين. كنت أشعر بنقزة الناس من حولي وشهقاتهم وغصاتهم مع صوت كل طائرة تحمل الموت الوشيك لأبطاله، ومع كل عقدة تحول بينهم وبين الحياة، وفي تجربة غاية في الواقعية خاض كل متفرج معنى أن تتعرض في كل لحظة لرض نفسي وأنت تناور الموت لتنقذ روحاً.
ثلاث طبيبات سوريات أماني، آلاء، منى والطبيب سليم. فريق من الأبطال الملحميين، رصدتهم كاميرات أبطال من المصورين الشجعان من أبناء الغوطة بدقة وحرفية يعود الفضل فيها لمايستروا العمل فراس فياض الذي كان يقوم بتدريبهم ومتابعتهم مباشرة عبر الانترنت. كانت قيادة فياض واضحة في العمل ككل ما جعل كل الفنيين الغربيين الذين تحدثوا بعد العرض (الموسيقيين والمونتيرية) لا يغفلون فضله في توجيههم وشرح طريقة سير العمل لهم حتى بدو جميعا مفاتيح في يديه لولوج هذا العالم السريالي لحصار الغوطة.
سنتعرف في الفيلم على أماني (ثلاثون عاما) طبيبة أطفال تقود فريق العمل، هادئة كملاك خائف، رحيمة، لطيفة، تغسل وجوه الأطفال من الدماء والغبار، تتحرك في الكهف ككائن شبحي يراقب الليل والصراخ والألم ويترصد أصوات الطائرات، تنهداتها ونظراتها أبلغ لغة في الفيلم، لا تريد الذهاب إلى البيت حتى وقت الاستراحة، تزور العائلات المحتاجة والمرضى، المسؤولية أكبر من كل الاعتبارات، بعد الكثير من الموت تنكفىء على مكتبها وتبكي بصمت.
سنتعرف على الطبيب سليم من دمشق، الذي ترك عائلته في الداخل السوري وقضى سنوات الحصار في الكهف. سليم حالة إنسانية عالمية بقدر ماهي خاصة ستلهم الفنانين والأدباء والفلاسفة، يجري العمليات الجراحية وسط القصف والدمار والدماء والخوف على أنغام الموسيقى الكلاسيكية والباليه العالمي، لكنه يبكي ككل الأبطال الملحميين حين يتفوق عليه الموت.
سنتعرف على سماهر، الصبية الطيبة التي تحاول جهدها لإطعام الجميع.
سنحضر عيد ميلاد يحتوي من البساطة ولحظات السعادة والضحك مايعيد لنا إنسانيتنا ويجبرنا على التواضع أما كل هذه العظمة الإنسانية لهذه المجموعة المعطاءة من كبار الروح من أبناء البلد.
فيلم الكهف هو الوثائقي الثاني بعد آخر الرجال في حلب المرشح لجائزة الأوسكار، وبرأيي أنه عن قصة آخر النساء في الغوطة، كمعنى مجازي كما استخدمه فراس في فيلمه السابق، ليصور أولئك الأبطال والبطلات الذين يقاومون حتى النهاية. حتى لحظة إخلاء الغوطة وحين صعدت أماني إلى الباص تحكي عن عبثية المشهد:
"بيقولوا للناس اطلعوا بالباصات اللي راح تاخدكم بعيد عن بلدكم، والناس عم يتسابقوا ليطلعوا فيها!"
ستبدو بعد الكهف كل سيناريوهات هوليود مفتعلة ومصطنعة أمام المأزق الإنساني الواقعي الذي أحاط بأبطال مشفى الكهف الطبي. ومن الواضح أن فراس فياض كمخرج تعامل مع الوضع كعمل جراحي دقيق ينبض بين يديه، فأي لقطة ناشزة أو أي عبارة خارج السياق كانت ستؤدي إلى وفاة العمل. بمعنى أن أي محاولة غير مدروسة لتجميل الصورة لصالح الفنيات كانت ستقضي على أمانته. لذا حافظ فراس على النقل الصادق والشفاف لمجريات الأمور في الكهف، كل ماهنالك أنه سمح لنا بالنظر من الداخل.
في إحدى المقابلات التلفزيونية يقول فراس فياض : "لا أفكر بأفلامي على أنها قضايا، وإنما قصة تبحث في سلوكيات الإنسان ومن خلاله تعيد اكتشاف هذا الإنسان واكتشاف نفسك"
تمثلت الإجابة عن هذه الجزئية تحديدا بأسئلة الناس في الصالة في أول رد فعل بعد العرض حيث كان أبرز سؤال تم توجيهه من مشاهدة بريطانية: ماذا علينا أن نفعل لهؤلاء، كيف نساعد، وماهي مهمتنا؟
وهكذا شعرت أن فراس وبذكاء وصل إلى غايته الأساسية.
لأول مرة أحاول الكتابة عن فيلم وثائقي وأنا أرتجف، فكل الكلام أقل مما فيه. إنه فيلم عن الحقيقة، فمن الذي يمكنه احتمال الحقيقة كاملة؟ ربما لهذا أجبر طاقم العمل كاملاً على الخضوع للعلاج النفسي طيلة فترة العمل على الفيلم. فمشاهدة جزء من الحقيقة يسبب الرض النفسي (التروما) فما بالك بتسع سنوات من التعرض اليومي لهذا الامتحان الجحيمي لشعب أعزل.
اليوم صباحا قرأت هذا الخبر:
تم ترشيح فيلم الكهف من قبل جائزة النقاد في أمريكا لخمس جوائز وهي:
أفضل فيلم، أفضل إخراج، أفضل تصوير، أفضل موسيقا، وأفضل شخصية للدكتورة أماني بلّور.
إنه فيلم يحمي حكايتنا من التشويش الإعلامي وكذب النظام عما حدث في الغوطة، لذا علينا أن ندعم فوزه بكل ما أوتينا من أمانة ومحبة، لأن أماني ومنى وآلاء وسماهر وسليم وكل جريح وكل شهيد وكل من ظهر في الفيلم، يستحقون شيئاً من العدالة بعد كل هذا الظلم.
#الكهف فيلم من إنتاج شركة دانماركية بالتعاون مع #ناشيونال_جيوغرافيك، كتابة أليسار حسن وفراس فياض، فكرة وإخراج فراس فياض. تغني رشا رزق النهاية بالانكليزية من تأليف أليسار حسن:
سمِعَتْ كل الأصوات من أعماق الأرض
شاهدت في العتمة نوعاً من الإحياء
أمسكت كل الأيدي بيديها
حان الوقت الآن لنغني كلماتها
لنستخدم أصواتنا جميعا ونقول
كفى..
من امرأة شاهدت كل شيء
إلى كل النساء في الخارج اللواتي يستطعن الغناء
لتوجيه نداء من أجل نهاية جديدة
حان الوقت لنغني هذه الكلمات من أجلها
لنغني ضد الصمت
لنقل كفى
لنقل كفى
https://www.youtube.com/watch?v=LJgBBwPYefc
Alisar Hasan Firas Fayyad