يبدو ظاهريا أن روسيا تحقق انتصارات هامة، وتتقدم خطوات حثيثة على طريق استعادة مجدها الغابر، ومكانتها المفقودة؛ ولكن الواقع أنها -وسط تلك النشوة الطاغية- تتوغل وتتورط أكثر.
يغلب على فهم السياسة الأميركية تجاه الوجود الروسي في سوريا أن واشنطن تركت غريمها المندفع يتورط في المستنقع السوري؛ تجنبا -من ناحية- للمواجهة مع موسكو المتطلعة إلى حفظ بقايا نفوذها الإمبراطوري القديم، وضربا -من ناحية أخرى- للمعارضة المسلحة على الأرض السورية بكل صورها بلا كلفة أميركية؛ حتى إذا توقفت الحرب في سوريا لم يكن هناك كيان قوي يصعب السيطرة عليه؛ كما كان الحال في المواجهة الغربية السوفيتية في أفغانستان قبل عقود.
أنواع الفاعلين
الأميركيون لا يهمهم من مشكلة سوريا إلا حلفاؤهم في المنطقة وما يرتبط بهم من مصالح أميركية، خاصة في القاهرة وتل أبيب، والثانية على توافق تام مع الروس بعد لقاءات حميمة عديدة بين بوتين ونتنياهو، وأما القاهرة فخلافاتها مع موسكو ليست بالعمق الذي يهدد النظام المصري القائم.
وفي مقابل هذا يعاني الأوربيون مع مشكلة الحرب في سوريا من جهتين: الأولى قرب الحرب من الجغرافيا الأوربية، والثانية موجات النزوح البشري الواسعة التي باتت تركيا غير مستعدة لتحمل مؤونة المزيد منها، بل أعلنت أنها قد تشبعت تماما من هذه الناحية، ويكفي أن تظل أنقرة راعية لقرابة ثلاثة ملايين منهم على أرضها؛ خاصة في ظل رفض الأميركيين وجود منطقة آمنة في شمال سوريا.
ومن خلال هذه الحسابات يبدو للمراقب أن هناك ثلاثة فاعلين رئيسيين في المشهد السوري: فاعل صامت، وفاعل ناطق، وفاعل متطفل. والفاعل الناطق الصارخ هي طائرات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بما تحدثه من دمار في القطر العربي اليتيم وما تقتله من أبرياء جارت عليهم معادلات السياسة الدولية وحساباتها في المنطقة.
وهذا الفاعل الناطق يطمع في تكرار سيناريو استعادة غروزني سنة 2000 من يد الحكومة الانفصالية وقواتها بتوظيف سلاح الطيران الروسي في الدك والتدمير بدون خطوط حمراء، على أن تقوم قوات الأسد والميليشيات الإيرانية وشبه الإيرانية بإتمام مهمة السيطرة على الأرض.
وأما الفاعل الصامت في الساحة السورية، فهي الولايات المتحدة وبعض حلفائها في أوربا الغربية، وصمتها يبدو أنه سيكون أشد تأثيرا في تحديد مستقبل سوريا من تأثير غريمها؛ لأنه قائم على اللعب على تقاطعات الصراع المحتدم وحسابات الاتفاق والاختلاف بين القوى المتصارعة أكثر من قيامه على المغالبة بالقوة التي نشهد فيها تفاوتا كبيرا بين أطراف الصراع في سوريا دون أن نتوقع قدرتها على الحسم بدون مراعاة لطبيعة الموقف من نواح أخرى.
ولعل أهم معالم الفعل الصامت والمؤثر جدا للولايات المتحدة في سوريا هو ظهورها في صورة الأخ الأكبر للجميع في مواجهة عدو هلامي اسمه "الإرهاب"، وهو ما يمنحها فرصة للعب بمواقف المجتمع الدولي الذي توقف في المأساة عند حدود الشجب والبكاء الإعلامي، ومن وراء الستار تضرب سياسة واشنطن خصمها بيد غيرها، أي تضرب القوى المسلحة العاملة ضد النظام بيد الروس، وفي لحظات تبدو فيها الأمور محسومة بضربات الطيران الروسي يتسرب السلاح إلى المجموعات المسلحة فلا يتم الحسم التام لأي من أطراف النزاع المتحاربة.
ومن العلامات الكاشفة لهذا الدور الأميركي الصامت: تراجع الأميركيين عن أمرين خاصين بسوريا كانا مهمين قبل التدخل العسكري الروسي فيها: الأول المشاركة العسكرية المباشرة في المواجهات القائمة على الأرض السورية، والثاني فكرة إسقاط الأسد وتبني تصورات لسوريا بدونه.
وأما الفاعل المتطفل في المعضلة السورية، فهو التحالف الذي يجمع بقايا جيش الأسد وميليشيات حزب الله ومرتزقة من عدة بلاد تخضع كلها لإدارة قيادة عسكرية إيرانية وتوجيهات خبراء حرب من الروس، وتكمن خطورة هذه القوات - رغم عجزها عن حسم أي شيء بمفردها- في أنها تقاتل على الأرض، وتَصلى نيران الحرب مباشرة، وتكتسب خبرة قتالية قد يكون لها تأثيرها في مناطق أخرى فيما بعد، وبالتالي تنافس المجموعات السنية المقاتلة للنظام السوري في السيطرة على الأرض؛ أي أنها الأداة المكملة للقصف الروسي الساحق، مهما قلنا عن اتفاق أو اختلاف أهدافها عن الروس.
وتبقى المجموعات السنية المقاتلة بعد كل هذا رقما مهما، إلا أنها يتيمة سياسيا وعسكريا، فسياسيا لا أحد -شخصا كان أو هيئة أو مؤسسة- يحسن الحديث باسمها ولا باسم الثورة السورية عموما، وعسكريا لأنها ما زالت -رغم جهودها- ضعيفة الإمكانات مشتتة القوى، لا يأتيها الفرج إلا حين توشك المعركة على الحسم لصالح النظام ومن معه، فتنفخ فيها تقاطعات الصراع روح الحياة من جديد بدون حسم من هذه الناحية كذلك.
وليس هذا تقليلا من الجهود الحربية التي تقوم بها الأذرع العسكرية للثورة السورية، ولكنه توصيف للواقع الصعب القائم، وكثيرا ما أدت التطورات في لحظات تاريخية مشابهة إلى تقوية طرف خامل أو هامشي حتى كانت له كلمة الفصل في صفحة التاريخ بعد أن كانت الحسابات تستبعده من البقاء أصلا.
قراءة التداخلات
إذن ليست الصواريخ وحدها هي القادرة على حسم صراع عسكري بهذا التعقيد السياسي والجغرافي كالذي تشهده سوريا، فهل يسوق الروسَ تاريخُهم إلى مزيد من المغامرات الفاشلة ولو بعد حين؟!
أحسب أن هذا هو الذي نشهده بأم أعيننا في الساحة السورية، فالتاريخ مؤثر وقابل للتكرار ما دامت عوامل صناعته قائمة على حالها؛ إذ إن الاختلاف بين روسيا القيصرية ثم الشيوعية وبين روسيا بوتين يبدو في الدرجة وليس في النوع؛ إذ تقوم السياسات الداخلية لهذه التجارب الثلاث على التحكم في مفاصل الدولة في الداخل، والسيطرة على اقتصادها، وامتلاك قوة أمنية رادعة، وفي الخارج على رعاية المصالح باستخدام القوة وصناعة أو شراء الحلفاء.
لقد نافست روسيا دول أوربا الغربية إبان نهضتها الحديثة في عصر بطرس الأكبر وكاترين الثانية، وتوسعت استعماريا في الفضاء الإسلامي الواسع في وسط آسيا والقرم، لكن تجربتها في مجملها لم تبلغ حضاريا بل لم تقترب من قوة التجارب الإنجليزية والفرنسية والألمانية حينذاك. وكذلك نافس السوفيات غرماءهم الأميركيين في الحرب الباردة منافسة قوية وبندية كبيرة في الظاهر، إلا أن النموذج الروسي الشيوعي آل إلى الفشل الذريع أيضا، فسقطت دولة القياصرة في ثورة عام 1917، وتفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991.
المصدر: الجزيرة نت
نبيل الغولي
↧