(*) منذ تحول بشير الجميل الى زعيم مسيحي مع بداية الحرب اللبنانية (1975)، حتى اغتياله (1982) وتحوله لاحقا الى أيقونة سياسية مسيحية، لم يتوقف إنتاج الصور والأغاني والملصقات التي تمجده، حينا بصفته زعيما وقائدا حربيا و"مقاوما مسيحياً" وأحيانا أخرى بصفته رئيسا ثم "شهيدا للجمهورية". في البداية كانت الأغاني أشبه بإعلان ولاء حربي للزعيم المستجد على الساحة. أشهرها ربما "لعيون الشيخ بشير" التي تتحدث عن قائد حربي جديد، لبى الجنود نداءه "لعيون الشيخ بشير جندنا الطير الطاير لما دق النفير". لكن مع اغتياله انقلبت صورة الرجل لتأخذ شكلا رمزيا بدأ بالتفاقم والتضخم تدريجياً. تقول باسكال صقر في أغنيتها "وعد يا لبنان" (ألحان الياس الرحباني) "صرت حلم الناس بقصص الولاد وسكنت الأحلام وفرح الأعياد". يومها بدأت صورة الرجل الجديدة بالتسرب الى تفاصيل عيش السكان لتصبح جزءا من القصص الشعبية وتشكل بذور صعود رمزي لن يتراجع قريبا. ربما ساهم في تفاقم هذه الصورة محاولة ورثة الجميّل، أو تحديدا ورثة جمهوره تقديم أنفسهم بصفتهم امتدادا له، منتقين كل حين من صوره ما يتلاءم مع السائد في أحد الفترات، لكن ما سيساهم حكما في تغذية صوره الرمزية المتضخمة. لكن اليوم، وبعد 34 عاماً على اغتياله. ماذا تقول صورة الجميل الرمزية عن مسيحيي لبنان؟ كتب في أحد الملصقات المنتشرة في المنطقة الشرقية من بيروت "إئتمنتكم على جمهورية. ماذا فعلتم؟". ثم يستذكر أحد المواقع مقطع من أغنية "الصرخة اسما بشير" التي تقول "لا تخاف يا بشير عالأرض اللي حبيتا... رح نحرسها ونسير عالدرب اللي شقّيتا" ثم يضيف الموقع "وما حدا مشي عدعساتك". يقول "شباب الأشرفية" منذ أشهر قليلة في أحد صفحاتهم على فايسبوك، "إن الرجل لم يمت في التفجير الذي استهدفه عام 1982 لكنه أصيب إصابات بالغة أجبرته على الغياب عن الساحة و"سيظهر" قريبا لتشكل عودته "دويا سياسيا سيهز المنطقة"! يأخذ شكل الإستذكار في ملصق "ماذا فعلتم من أجل الجمهورية؟" طابعا تأنيبيا وتذنيبيا واضحا. يمكن البحث عن جذور هذا الذنب في أغنية "من هاك الملعب ما نسينا" (من ألحان الياس الرحباني وكلمات موريس عواد) التي ترتكز على الجميل الذي يزيل العيب ويمحي الذنوب "ندهنالك طلّ وحاكينا، عجّل رح منصير غروب .. طلّيت وصرت تنقّينا وتنقّي وما تخلّي عيوب". يعجز الوعي المسيحي اليوم في "غروبه" عن إفراز قائد مماثل لبشير الجميل، فيلجأ بعضهم الى تأنيب نفسه. يرى هذا الوعي أن المسيحيين ينقصهم الجميل ويشعرون بالذنب، فيلجأون من خلال نشر صورة الجميل في الطرقات وعنونتها بـ"ماذا فعلتم؟" الى المساءلة التي تحيل مرة أخرى الى هذا التأنيب والتذنيب نفسه. لكن هذا الذنب المتثاقل اليوم يعبّر عن نفسه في مكان آخر من الأغنية "صدفة الحمرا لعبت فينا .. حملونا ذنوب ذنوب .. سكتنا والريح بتلوينا مرة شمال ومرة جنوب ... نمنا عالجرح وما شكينا وتذكرنا حروب حروب". يحاول موريس عواد في هذه الأغنية التي تعود الى ثمانينات القرن الماضي، تقديم وصف لحالة المسيحيين قبل اندلاع الحرب. المسيحيون هنا بصفتهم "مسالمين" يتابعون تمادي الوجود الفلسطيني المسلح بدون مواجهته، منتظرين في الوقت نفسه إفراز قائد جديد سيلجأ الى الحلول الحاسمة كبشير الجميل. يصبح الذنب هنا رديفا للإمتناع عن القتال قبل 1975 وهو ذنب يعاد انتاجه في ظروف شبيهة اليوم مع تمادي الحرب السورية والإمتناع الى الآن عن إفراز قائد جديد "لا ينام عالجرح" كما تقول الأغنية. منذ تفجيرات القاع الانتحارية، تتكاثر مظاهر الريبة و"الإنقباض" في الشارع المسيحي. تعود صورة بشير الجميل بصفته قائدا عسكريا لا يهادن وهي نفس الصورة التي شكلت صعوده في بداية السبعينات كمقاتل بديل عن أبيه(بيار) وشقيقه(امين) السياسيَين اللذَين يلجآن الى أنصاف الحلول. تعود هذه الصورة مع صعود حالة مليشياوية مسيحية في المناطق المهددة بالخطر الداعشي وخاصة في البقاع. تظهر امتدادات هذه الحالة في بيروت مع ازدياد التسلح بين السكان وتفاقم الصور الذكورية الحربية عند فئات كبيرة من مسيحيي المناطق الشرقية من العاصمة. ومع ذلك يمتنع الشارع المسيحي عن إفراز قائد جديد على الرغم من وجود ظروف شبيهة لإنتاج صورة بشير الجميل في بداية السبعينات. يتحول هذا الإمتناع الى ذنب متثاقل على الظهور ولا مهرب من تحول الذنب الى حلم بالخلاص على طريقة شباب الأشرفية الحالمين بعودة المخلص، فيما يبدو تحولا في الصورة القدسية والدينية التي يحملها الجميّل الى مكان جديد كليا. (*) تصادف اليوم 23 آب/أغسطس، ذكرى انتخاب بشير الجميل رئيساً للجمهورية.
المصدر: المدن - حسن الساحلي
↧