زمن التطبيقات المفتوحة باب "داعش" الخلفي تفجير الأقليات المسلمة حواضن القلق
أعلن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) مسؤوليته عن هجوم الشاحنة الدامي التي هاجمت سوقا تقليدية لأعياد الميلاد في برلين. وقد سبق للتنظيم أن تبنى هجمات سابقة في أوروبا، منها هجوم الشاحنة الدامي في نيس الفرنسية مطلع صيف 2016 الذي كان ثلث ضحاياه من المسلمين. والسؤال هو إن كان على العالم التسليم بمصداقية إعلانات التبني هذه التي تعقب الاعتداءات الدامية؟ قد تبدو بصمة "داعش" حاضرة للوهلة الأولى فيما جرى في ألمانيا وفرنسا وبلجيكا، لكن من المجازفة الأخذ بروايتها الجاهزة وكأنها خططت مباشرة لهذه الهجمات التي استهدفت ضحاياها في مواقع رخوة للغاية وباستعمال أدوات بدائية غير متوقعة. زمن التطبيقات المفتوحة يتجلى العامل الفردي في الموجة الجديدة من الاعتداءات التي شهدتها أوروبا عبر سنة 2016، فقد قام أفراد باختيار أهداف موجعة للفتك بالبشر على طريقة الذئاب المنفردة، وفي بعض الحالات لم تعمل المتفجرات البدائية أو كانت قطعة السلاح المستعملة معطوبة مثل واقعة القطار السريع بين أمستردام وباريس في صيف 2015.ربما استجاب هؤلاء بالفعل لنداءات عامة أو توجيهات محددة أطلقتها "داعش"، واستلهموا تطبيقات مفتوحة لا تتطلب أسلحة أو أدوات قتالية، بل تكفي معها فأس وسكين، أو شاحنة تمضي مسرعة على عجلات، وخيارات أخرى عصية على الحصر. إنه زمن التطبيقات المفتوحة التي يجري تمريرها عبر مجتمعات العولمة، فهناك تطبيقات ثورية وجماهيرية، وأخرى للعمل المدني الضاغط، ولتنفيذ هجمات دامية بالشاحنات أيضا.لقد تضخمت ظاهرة الهجمات العشوائية في الزمن الجديد، دون أن يقضي ذلك بأنها مؤشر على تفاقم نزعات الشر لدى البشر، فواقع الحال أن هذه النزعات حازت أدوات فعل وتأثير لم تكن متاحة لنسخ سابقة مثل جماعات الإرهاب الأحمر والفاشي مثلا قبل عقود خلت.
كما تحوز الهجمات الجديدة فرصة أعمق لإيلام المجتمعات المستهدفة عبر توثيق الفظائع بالصور والمشاهد المغموسة بالدم، وغالبا ما يتطوع الجمهور للقيام بمهمة التلصص على آلام الضحايا بصور ومقاطع وتغطيات البث المباشر في الشبكات الاجتماعية. تؤدي المواكبة المرئية إلى تضخم الوعي بالفواجع والفظائع على نحو لم يتحقق في ألمانيا مثلا لأعمال قتل اقترفتها جماعة "الجيش الأحمر" المعروفة باسم "بادر - ماينهوف" في القرن الماضي. باب "داعش" الخلفي فتحت "داعش" بابا خلفيا في المجتمعات الأوروبية وغيرها يغوي أشخاصا من خلفيات مضطربة أو متشنجة، أو ممن شهدوا في حياتهم صدمات وهزات. ينفلت بعض هؤلاء من الهوامش ليباشروا عبر مسارات التشدد فعل الانقضاض الانتقامي على المجتمع أو الانخراط في حياة بديلة تقترحها عليهم وعود الهوس الديني والسلوكي المنغلقة على ذاتها أو حتى المنظمات المتطرفة والعنيفة. لا يتطلب الأمر اليوم تجنيد الأفراد بطرق تقليدية معهودة في التنظيمات السرية والعصابات المسلحة، فهناك من تجتذبهم دعاية "داعش" المباشرة أو غير المباشرة التي تتمدد بلغات أوروبية.إنها تقوم على نظام رمزي خاص بها مع تفسيرات مستقلة للعالم والتطورات، علاوة على تشبعها بإيحاءات مؤهلة لاستمالة قطاعات من الشبان والشابات.لا ينفي هذا وجود شبكات تجنيد مباشرة على الأرض ترتبط بـ"داعش" وأخواتها، خاصة عبر الالتحاق بميدانها في سوريا، لكن الدعاية والتأثيرات تتمدد في الواقع الأوروبي عبر مسالك شتى مستفيدة من التناقضات المجتمعية القائمة في المقام الأول. أدركت "داعش" وأخواتها فرصة الاصطياد المتاحة في الهوامش الاجتماعية وعوالم الجريمة المنظمة وخريجي السجون، والمزايا التي يتيحها استغلال التناقضات في المجتمعات المحلية، ففتحت بذلك بابا خلفيا لينفلت منه الذين ضاقت عليهم مجتمعاتهم الأوروبية بما رحبت.إنه باب مخصص للقانطين من واقعهم، وللحالمين بالالتحاق بوعود الفردوس الأرضي في كنف "داعش" أو بوعود الفردوس الأخروي عبر النحر والانتحار، أو التفجير أو الدهس. إنه جيل أوروبي تحاصره خيارات أخرى للفرار من ضغوط الواقع، كالاستغراق في المخدرات وتعاطي الخمور والاستسلام للمؤثرات العقلية وغواية الانتحار، علاوة على خيارات الالتحاق بجماعات هامشية وحركات فوضوية أو المكوث الزاهد في جبال الهند أو حتى التطوع في جيش الاحتلال الإسرائيلي ومليشيا أوكرانية وروسية. وبالنسبة لبعض الشبان والشابات فإن خيارات كهذه تفتقر إلى رشفة البطولة وشرف الموقف المتخيل كالذي تغوي به دعاية "داعش". لا تبدو الحالة عابرة، ففي مجتمعات أوروبا يفوق منسوب المنتحرين ضحايا حوادث السير مثلا، وتتخذ الظاهرة منحى مذهلا في فرنسا حيث يقضي الانتحار على عشرة آلاف شخص سنويا (وفق الاتحاد الوطني الفرنسي للوقاية من الانتحار)، وقد حاول أضعاف هؤلاء إنهاء حياتهم أو راودتهم الفكرة دون التجرؤ على الامتثال لها. تأتي "داعش" وأخواتها لتفتح لهؤلاء طريق الخلاص المعبد بالشعارات المجيدة، مع جاهزية مذهلة للخضوع لمؤثرات الهيمنة على الوعي في مجتمع يختزن تناقضات الحداثة وما بعد الحداثة. ثم يتم تحضير الاعتداءات على المجتمع والدولة بصفة فعل انتقامي وتسديد للثأر، وتعبيرا عن الرضوخ لقيمة أعلى تم تعظيمها في الوعي الفردي على أي قيمة أخرى حتى ولو كانت قيمة الحياة والانتماء المجتمعي وآفاق النجاح في الحياة. مع هذا النمط من غسيل الأدمغة أو الجاهزية للرضوخ؛ تنحت دعاية "داعش" أفكارا ملهمة للراغبين بالخروج من المشهد المجتمعي، ويجري هذا بصفة انسيابية دون الحاجة إلى إدارة تقليدية لمنحى التوحش. فالنقلة النوعية التي ترافقت مع "داعش" تقوم على تمرير الفحوى بطريقة مُعولمة، عبر نشر التطبيق أو دليل الاستخدام الفردي عبر العالم بلغات شتى مع تكييف يراعي الخصوصيات المحلية أيضا، بما في ذلك فنون الدهس الجماعي للبشر في الأماكن العامة.
إنها حالة تطورية عن نموذج "القاعدة" السابق، فلا حاجة معه لفروع تعلن ولاءها للمركز، بل يباشر الأفراد ذلك حتى لو فاحت رائحة الخمر من أفواههم، أو لعلهم يعبرون عن نزعات انتقامية شخصية نحو المجتمع المستهدف كما في جريمة الملهى الليلي في أورلاندو في الولايات المتحدة مطلع صيف 2016. ما يتم الإقرار به على نحو متزايد أن حالات التجنيد الأوروبية لصالح التشدد المسلح تتم غالبا بمعزل عن المساجد والأوساط المتدينة، فهي تلتقط العناصر من السجون ومؤسسات التعليم والأحياء المهمشة وعالم الإجرام. وسيُطلب من هؤلاء في لحظة معينة رفع راية سوداء يمكن تنزيلها من الشبكة، أو التلويح بمصحف لم يحسنوا تلاوته، أو إطلاق تكبيرات لم يستعملوها في الصلاة أساسا، بما يمنح عنهم انطباعا زائفا لا يمت بصلة إلى خلفياتهم الحقيقية. تجري عمليات التجنيد وغسيل أدمغة الشبان والمراهقين بوسائل مبتكرة ومن خلال مداخل متعددة، بصفة مباشرة وغير مباشرة، بما فيها عبر الشبكة ومواقع التواصل الاجتماعي وتطبيقات الأجهزة الذكية علاوة على ألعاب إلكترونية تقوم على تمجيد القوة ومن شأنها تهيئة أذهان الشبان لممارسة القتل والفتك والاشتباك في واقع افتراضي، فيتم التقاط بعض البارعين فيها لتجريب أحلامهم الافتراضية في الواقع. إنها مجتمعات موازية ينخرط فيها أفراد المجتمع المرئي ويديرون عبرها أنماطا مزدوجة أو متعددة الأبعاد من الحياة والسلوك التواصلي المتحرر من التزامات الواقع، وبأسماء وصفات غير متطابقة مع حياتهم الواقعية. تفجير الأقليات المسلمة لا تتوقف التفاعلات عند هذا الحد، فقد ألحقت سلسلة الهجمات التي ضربت العمق الأوروبي أضرارا جسيمة بالوجود المسلم الهش في القارة غربا وشرقا. فعندما تتعامل عصابات مسلحة مع تجمعات مسلمة هشة مثل حي مولنبيك في بروكسيل أو سان دوني في باريس كفناء خلفي للتجنيد ضد المجتمع العريض؛ فإن سلوكها هذا يخاطر بتطويق الأقليات المسلمة وعزلها وحتى تفجيرها، بمعنى تقويض تجاربها الذاتية وتمزيق أواصرها مع النسيج المجتمعي المتنوع واستنفار أدوات الدولة في مواجهة أجيالها الصاعدة. سيساهم هذا أيضا في تمكين تيارات التشنج والعنصرية والكراهية من الصعود على أكتاف مجتمعات يجتاحها الخوف فتحصد الأصوات في الجولات الانتخابية. وإن اعتمدت الحالة الاعتيادية لسلوك جماعات التشدد المسلح، على تفخيخ شخص مثلا وإرساله إلى موقع التفجير بعد إخضاع وعيه أو غسل دماغه؛ فإن المساعي الجارية في أوروبا ومناطق انتشار الأقليات المسلمة بشكل عام تقوم على المجازفة بتفخيخ الوجود المسلم الهش وصولا إلى فرض الحصار عليه وسد نوافذ الأمل في وجه أجياله الصاعدة. ولا تمل دعاية "داعش" من تعظيم المفاصلة بين الأقليات المسلمة ومجتمعاتها العريضة المتنوعة، مع تشديد النكير على التعايش الإيجابي للمسلمين في بيئاتهم الأوروبية. تتفاعل هذه الدعاية مع واقع حافل بالفجوات؛ ففي الحالة الفرنسية مثلا تتجلى في الأساس تناقضات واضحة إلى حد شعور بعض الأوساط المجتمعية المسلمة أنها مستثناة من مكاسب "قيم الجمهورية"، والشكاوى في هذا الحقل مزمنة ومشفوعة بجهود توثيقية متعددة. وخلف هذا الواقع تكمن عوامل ضاغطة على فرص الأجيال الجديدة متصلة بقصة تشكل مكونات تحمل خلفية هجرة، علاوة على استعلاء نبرة "خطاب الجمهورية" الذي لا يعترف بأقليات أو خصوصيات ثقافية تعددية ضمن فضاء الدولة الفرنسية. حواضن القلق تتولى بعض تفاصيل الواقع إذكاء حواضن القلق التي تغذي القابلية للالتحاق بالإرهاب، عبر إنتاج شروط الحنق أو تحفيزها، علاوة على علاقة جدلية بين دعاية التشدد الميداني التي ترفع لافتات إسلامية مزيفة من جانب؛ وحمى الإسلاموفوبيا والعنصرية الانتقائية ضد المسلمين من جانب آخر، فكلاهما يمد الآخر بمقومات الاستمرار والتمدد.
ما لم تفحصه النخب الأوروبية بجرأة حتى الآن، هو تأثير الوعي المتزايد في زمن العولمة والتشبيك بفظائع تجري في رقاع أخرى من العالم، خاصة عندما يعتبر الشبان الحانقون أن السياسات الخارجية لدولهم الأوروبية ضالعة في ما يجري بشكل أو بآخر، أو متواطئة معه بدرجة ما، وهذه مسألة تطرقت إليها وزيرة الخارجية السويدية مارغوت فالستروم بعد هجمات باريس في خريف 2015. ورغم كل ما يجري؛ فإن أوروبا لا تُبدي حتى الآن اكتراثا بمراجعة سياساتها الخارجية. ومن المألوف منذ خمس عشرة سنة، أي منذ هجمات سبتمبر/أيلول/ 2001، أن يتفاقم منطق المعالجة الأمنية لكن مع تحصين السياسات الخارجية والعسكرية من النقد والمراجعة رغم تأثيراتها المؤكدة في إنتاج حرائق عابرة للحدود وإذكاء الغضب في ثنايا مجتمعية وإن بصفة غير مباشرة. زيادة على ذلك؛ تصعد في بلدان أوروبية طائفة من السياسيين الانتهازيين لا تمانع في استغلال آلام ضحايا الاعتداءات في المنافسة الانتخابية، وقد يجري تعميم المسؤولية على المكون المسلم العريض بما يفقده شعور الأمان المستقبلي ويحاصر التدين المعتدل. لقد أطلقت شاحنة برلين تراشقات مدفوعة بأطماع انتخابية، أقدم خلالها حزب أقصى اليمين "البديل لأجل ألمانيا" على تحميل المستشارة ميركل مسؤولية مباشرة عن الهجوم بصفتها من استدعت اللاجئين! أما رئيس وزراء سلوفاكيا روبرت فيتسو الذي ترأس بلاده الاتحاد الأوروبي حاليا فأعلن صبيحة اعتداء الشاحنة أنه لن يسمح بقيام مجتمع مسلم متماسك في بلاده. إن استجابة أمم أوروبا لتحدي الهجمات بتمكين دعاة التشنج السياسي من الصعود إلى الحكم وبإذكاء خطاب التشويه والتفرقة في السياسة والمجتمع والإعلام؛ من شأنها أن تُفاقم مظاهر الإقصاء والتهميش وتوسيع الفجوات الكامنة في المجتمعات. بهذا ستجد مزيد من الفئات ذاتها خارج الرواق الموصد بإحكام أو أسفل سقف زجاجي سميك يحول دون صعود فئات معينة بسهولة إلى مواقع مجتمعية متقدمة. ستتفاعل لدى هؤلاء المهمشين تحديدا قابليات الانزعاج والغضب والاضطراب، وقد يجد أفراد منهم خلاصهم في أبواب خلفية مفتوحة على عوالم الجريمة والمخدرات والفرق المهووسة، أو في باب فتحته "داعش" ذاتها للقانطين من واقعهم والحالمين بالفردوس الأرضي والخلاص الأخروي.
المصدر: الجزيرة نت