خبط السائق مقود سيارته بيديه الاثنتين، عندما قلنا له: الحمرا لو سمحت. فاجأنا تصرّفه غير المتوقع. لم نقل، أنا، زوجتي، ابني، شيئاً. واصل من دون انتظار ردَّ فعلنا: انعدمنا. انعدمنا رسمي؟ إذا وصلنا بعد ساعة ونصف، مش رح آخذ منكم أجرة. قال ابني الذي يقيم في بيروت، كأنه يعتذر: والله مضطرين. لازم نروح على الحمرا. عندنا موعد هناك؟ كان سيل السيارات يتدفّق في شارع أرمينيا، بمنطقة مار مخايل، حيث استقللنا سيارة الأجرة. وكان واضحاً أن الذهاب إلى شارع الحمرا، في هذه الأوقات التي تسبق عيد الميلاد، أمرٌ شاق، ولكن هذا لا يمنع أن يظل هناك من يذهب إلى "الحمرا".
عاد السائق، الأربعيني، إلى الولولة: كان قلبي حاسس إنو رح تروحوا على الحمرا. يا خيي ما حدا بيروح على الحمرا بهالأيام. لم يجب ابني. لكزتني زوجتي، عندما أحسّت أني أتحفّز للرد. هي تعرف نهاية مثل هذه التحفّزات مع سائقي السيارات. لي سجلٌ سيئ معهم، لم أسجّل فيه نقطة لصالحي.
صدح السائق: الزبون شو فارقة معو. التعتير على الشوفير. ثم مدّ يده إلى جيب السيارة، وأخرج ثلاثة أشرطة دواء. لوَّح بها. ومال بجذعه إلى الوراء، ليراني جيداً: إحنا عايشين على الأدوية والمهدئات. تصدر منا كلمات وهمهمات مجاملة.. لا رغبة لدينا في حديثٍ لا ضرورة له، نريد أن نصل إلى شارع الحمرا الذي "أخطأت" بإعطاء موعد لصديق قديم في أحد مقاهيه.
لا أعرف الطريق من مار مخايل إلى "الحمرا"، لأنني لم أزر ما كانت تسمى "بيروت الشرقية"، فتلك كانت منطقة "العدو". كانت هناك خطوط تماس. منطقةٌ عازلةٌ يقف على جانبيها قناصةٌ من الطرفين. كان هناك مَنْ يعبر طريقاً واحداً في منطقة المتحف، وهؤلاء، غالباً، من سكان أحياء "بيروت الشرقية" الذين يأتون لتفقّد بيوتهم المتروكة في عهدة أقارب وأصدقاء. نادراً ما كان يحدث العكس. وهذا يعني أن "المنطقة الغربية" (من بيروت) كانت أكثر تسامحاً وتقبلاً لـ "الآخر" من "المنطقة الشرقية"، لأنها لم تُقم صراعها على الهوية الدينية أو الإثنية. لهذا، لم أعرف أي جزء من بيروت يتجاوز "خط التماس" الذي نخرت القذائف وملايين الطلقات عمائره، على الجانبين، وحوّلته سني الحرب الأهلية إلى منطقة أشباحٍ بكل معنى الكلمة. هذا لا يعني أن قوى "بيروت الغربية" كانت من الملائكة. كلا، فهناك تصفيات وجرائم ارتكبت، بيد أنها لم تمثل طابعاً وسياقاً، بحسب ما أتذكّر الآن.
سلك السائق الطريق البحري في اتجاه "الحمرا" للتخلص من زحمة السير الخانقة التي تسد شوارع بيروت الضيقة. سيارات، بأعداد هائلة، وأعمار، وماركات من كل نوع، تسعى في الشوارع. كل الشوارع، في أي اتجاه. إنه وقت عيد الميلاد، واللحظات الأخيرة للتسوّق. تُبدي لك الشوارع تناقضاً كبيراً في كل ما تضمه من عمائر وبشر وسيارات وبضائع. تريك نفاياتٍ في كل مكان، ولكنها ليست التلال التي رأيناها على الشاشات. المدينة متعبة. مغبّرة. بنية تحتية انتهت صلاحيتها منذ أمد طويل. لكن، من بين التعب والقِدم والتهالك يسري نسغ حياة. إنه عنصر الشباب الذي لا ينفكّ، دائماً، عن مراودة المستحيل، وإن كان، في الحالة اللبنانية، لا يتجاوز الحلم بحياةٍ أفضل، بلا طائفية، بلا وصاية من أمراء الحرب، وأي أمراء آخرين، والتمتع بمواطنةٍ تنهي الترسيمات الطائفية التي أصبحت دستوراً أقوى من الدستور المكتوب.
وصلنا إلى "الحمرا" في نصف ساعة تقريباً. كان صوت السائق يخفت، مع سيولة الحركة على طريق "الكورنيش"، إلى أن كفّ عن العويل نهائياً. لا أتذكّر "شارع الحمرا" بهذا البؤس. ليس هذا ما كان عليه "شانزليزيه" العرب. هنا تلحظ التغيرات الاجتماعية والثقافية التي طرأت على المدينة في زمن "السلم الأهلي". وهنا ترى بعض مآسي الحرب السورية وجرائم النظام ضد شعبه. لا ينبغي أن أستغرب كثيراً ما يؤول إليه شعبٌ في حالة حربٍ أهلية. لا ينبغي أن أُصاب بالصدمة لرؤية عشرات النساء السوريات (والأطفال) يفترشون الأرصفة. يتسوّلون. يبدو أنه مضى وقتٌ على هذه الحالة، لأنها بدت "طبيعية" لمن يطلب ولمن يعطي (أو لا يعطي).
نقدنا السائق الذي لم نعد نسمع صوته الأجرة المطلوبة، ولم نذكّره بالقسم الذي قطعه على نفسه. يكفي أنه انقذنا من ساعةٍ أخرى من العذاب في شوارع مسدودة تماماً.
المصدر: العربي الجديد - أمجد ناصر
↧