على مقربة من جامع الحصري في مدينة السادس من أكتوبر بالقرب من العاصمة المصرية القاهرة، تمكن السوري أبو أحمد من استئجار شقتين له ولأولاده. واحدة منهما للسكن والثانية حوّلها إلى معمل صغير لتصنيع الحلويات الشرقية. يقول أبو أحمد لـ"العربي الجديد"، إنّه استنفد كلّ أمواله في جلب أولاده من سورية ليستقر في مصر بعيداً عن ويلات الحرب في بلاده.
وبالفعل، بدأ "من الصفر"، كما يقول المصريون. يصنع حلوياته يومياً ويوزعها على المحلات. الإنتاج اليومي يبلغ خمسين علبة من الهريسة والبسبوسة والجلاش وغيرها من أصناف الحلوى السورية. هو إنتاج كفيل بأن يدرّ عليه 500 جنيه (27 دولاراً أميركياً) يومياً يعيش بها مع أبنائه الثلاثة وزوجاتهم. ولا يكتفي أبو أحمد بذلك، بل يتولى إعداد الولائم في الحفلات والأفراح بأشهى ألوان الطعام.
حتى الآن، لا يعرف الرجل السوري المتخصص في الطعام والحلويات، والذي يعتبر نفسه من أفضل "الشيفات"، إن كان سيستقر به الحال في مصر أم سيذهب إلى دولة أوروبية وفق طلب لجوء تقدم به إلى الأمم المتحدة. يقول أبو أحمد: "إذا تحسنت أحوالي هنا لن أغادر مصر، وإذا لم أجد فرصة تليق بإمكاناتي، كأن أفتتح مطعماً كبيراً أو يستقدمني أحد الفنادق الكبرى، فلن أبقى في مصر". وبالرغم من أنّه لا يكفّ عن الغناء، خصوصاً لأم كلثوم ونجاة الصغيرة وعبد الحليم حافظ وأسمهان ونجوم الطرب الأصيل في الوطن العربي، إلّا أنّ نبرة من الحزن تختبئ في باطنه لا يفصح عنها إلّا لأقرب المقربين إليه.
من جهته، يقول أبو عماد لـ"العربي الجديد"، إنّه جاء من ريف دمشق وأسرته في ما عدا ابنته التي لا تستطيع الخروج من سورية بسبب زوجها الذي لديه مشكلة في تأمين جواز سفر. يضطر أبو عماد إلى أن يدخر من عمله مائة دولار شهرياً لإرسالها إلى ابنته.
أبو عماد تمكن من شراء سيارة ميني باص يعمل عليها سائقاً بين مدينتي الشيخ زايد والسادس من أكتوبر، وأصبحت له صداقات متعددة لأنه يحسن التعامل مع الركاب. أصبح يعمل بنظام "المشوار الخاص" مع الزبائن، وهو ما يدرّ عليه ربحاً أفضل، لكنّه يعمل ليلاً نهاراً، وقد عُرف عنه أنّه الرجل الذي لا يقول "لا" لأيّ من زبائنه.
لم يكتفِ أبو عماد بشراء سيارة له، لكنه استأجر ورشة ميكانيك لولديه عماد وأحمد. وبالفعل، اشتهر ابنه "عماد سوزوكي" في مدينة الشيخ زايد. يقول عماد إنّه لا يعمل إلّا في ميكانيك سيارات "سوزوكي"، لذا اكتسب ثقة أصحاب السيارات، فهو كما يقول "لا يفتي بما لا يعلم".
بدورها، تعتبر أم مازن من السيدات المعروفات بين السوريين المقيمين في مدينة السادس من أكتوبر. هي كوافيرة ولديها صالون نسائي كوّنت من خلاله صداقات. كذلك، تنشط اجتماعياً في مساعدة المحتاجين من اللاجئين السوريين، وتقدم لهم العون هي وزوجها ووالدها الذي يعتبر من الشخصيات المعروفة في ريف دمشق. لا يقتصر الأمر عند هذا الحد، بل كوّنت أم مازن أيضاً جمعية خيرية لمساعدة السوريين وتعليم أبنائهم تعاليم الدين والثقافة الإسلامية وتحفيظ القرآن والمساعدة في تزويج المصريين والسوريين من فتيات سوريات.
وعلى مقربة من جامع الحصري في شارع الأميركية في مدينة السادس من أكتوبر، تشعر كأنّ المنطقة تحولت إلى دمشق مصغّرة، حتى أنّ البعض أطلق على الشارع اسم "المنطقة السورية". الحياة هناك تأخذ الطابع السوري المميز في واجهات المحلات وأسمائها والعاملين فيها، وصولاً إلى الباعة الذين يفترشون الأرصفة. هناك صعوبة في العثور على مواطن مصري بين آلاف اللاجئين الذين يشعرون بالألفة في المكان رغم الغربة&8230; ففي هذه المنطقة ترى الوجه الآخر للاجئين الذين نقلوا أموالهم واستثماراتهم وأعادوا تشغيلها في مصر، وأحدثوا بذلك نشاطاً اقتصادياً في المدينة.
في هذا الإطار، يقول عبد الجبار حسن، وهو سوري يملك أحد المحال التجارية، إنّ معظم السوريين الذين افتتحوا مشاريع استطاعوا الخروج من سورية بأموالهم، ومن لم يستطع ذلك جاء إلى مصر ثم تابع عمله بالشراكة مع سوري آخر بقي في بلاده لكنّه يرسل الأموال إلى شريكه في مصر عن طريق المصارف وعلى دفعات لإنشاء مشروع. يتابع: "من جهتي، افتتحت مشروعي في مصر بعد سنتين عندما استطعت نقل استثماراتي وأموالي من سورية.
هناك سوريون يعتبرون أدلّة لإنشاء المشاريع في مصر، وهم الذين يوفرون المحال ويعرفون الرائج من التجارات، لذلك فإنّ معظم مشاريع السوريين تجدونها في المأكولات لأنّها الأكثر ربحاً، إلى جانب المقاهي".
بعيداً عن مدينة السادس من أكتوبر، يتواجد السوريون في معظم محافظات مصر ويشتغلون في كلّ الأعمال جنباً إلى جنب مع المصريين. يقول الأربعيني السوري أبو مهند، مثلاً: "انتقلت إلى مدينة دمياط بسبب طبيعة مهنتي في النجارة (تشتهر بها المحافظة الواقعة في شمال شرق مصر)". وبالفعل، جاء إلى دمياط نحو خمسين ألف سوري، بعضهم يعمل لدى نجارين مصريين، والبعض الآخر افتتح مصانع وورشاً للنجارة فيها.
العربي الجديد
↧