كيف تحوّلت ثورة ملهِمة إلى نكبة ومأزق مستحكِم؟ مئات الآلاف من الشهداء والمعاقين والأرامل واليتامى.. ملايين اللاجئين.. دمار شامل.. بلد مستباح يقاتل فيه كل من هبّ ودبّ.. حرب أهليّة وإقليمية دولية مدمِّرة.. ولا ضوء في نهاية النفق. كل ذلك رغم الجهود الجبّارة والتضحيات الجسام التي قدمها أحرار وحرائر سوريا في الداخل والخارج.
ما لعمل إزاء هذه المأساة وهذا المأزق؟ هل نعتمد نفس المقاربة الفاشلة؟ مقاربة الإنكار والتبرير والترقيع والعشوائيّة والمظلوميّة والتنصّل من المسؤولية..، مقاربة التنديد والمناشدة والمكابرة وتنفيس الغضب وتسكين الألم، ثمّ الاسترخاء في انتظار الحريق القادم. لم نجن من هذه المقاربة سوى الجمود والتخلّف والتبعيّة والكوارث وتكرار الأخطاء وإضاعة الفرص.
آن الأوان أن نكون أكثر جدّية وشجاعة ومنهجيّة في التّعاطي مع أزماتنا، وأن نعتمد المقاربة القرآنيّة المتمثّلة في التشخيص وتحمّل المسؤولية والاعتبار.
والتي رسمت معالمَها الآياتُ التي نزلت بعد هزيمة أحد التي حمّل القرآن الصحابة المسؤوليّة الكاملة عنها، فقال: "قل هو من عند أنفسكم"، وقال: "حتّى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبّون، منكم من يريد الدّنيا ومنكم من يريد الآخرة". ولقد كان لافتا ألاّ يذكر القرآن الطرف الآخر تماما حتّى يمنع عن المسلمين مسكّن المؤامرة والمظلوميّة.
ليس أمامنا إلا مواجهة الحقائق مهما كانت صادمة، وأن نبتعد عن التبرير ولا ننشغل بالتوصيف والتنفيس، بل نركّز على التقييم لعلاج جذور الأزمة والتخطيط.
تعرّض اليهود للمحرقة، فماذا كان ردّهم؟ قالوا: "لن تتكرر أبدا" (never again)؛ وإذا بهم بعد عقود قليلة يصبحون قوّة عظيمة النّفوذ ومُهابة رغم قلّة عددهم. ودُمّرت ألمانيا واليابان دمارا شاملا، فما مرّت عقود قليلة حتى أصبحتا من أعظم القوى الاقتصادية والصّناعية، رغم افتقار اليابان للموارد الطبيعية وكثرة كوارثها الطبيعية.
ومن المفارقات أنّ اليابان أرسلت سنة 1862 إلى مصر بعثة للاستفادة من التجربة المصرية في التحديث، واندهشت البعثة من نظافة البلاد ومن القطار، وكذلك فعلت كوريا الجنوبيّة سنة 1962. ولا تزال الأمم من حولنا تقفز وتقلع ونحن نراوح بين الجمود والتقهقر.
بالعودة إلى مأساة سوريا؛ إذا تخلّينا عن المقاربة الفاشلة والمسكّنات وتجاوزنا التوصيف والثرثرة إلى التشخيص، فسنجد أنّنا بصدد ثورة شعبيّة سلميّة ملهِمة من أجل الحرية والكرامة لم تُرفع فيها أيّ رايات حزبيّة أو طائفيّة. ثبتت على ذلك أشهرا في وجه آلة البطش، وفي وجه محاولات الاختراق والاستدراج.
كانت ثورة بلا قيادة سياسيّة فتعرّضت لما تعرّضت له سائر الثورات العربيّة. دخلت على الخطّ النّخب التقليديّة التعيسة، فلم تر في الثورة إلاّ فرصة للوصول إلى السّلطة بأيّ وسيلة وبأيّ ثمن؛ فكانت العسكرة وكان التحزّب والتّنازع وكان الاستقواء بالخارج والارتهان له، وكلٌّ من هذه المطبّات كفيل بتحريف وإجهاض أيّ ثورة.
وبهذه الطريقة فشلت الثورات العربيّة باستثناء تونس التي لم تكن العسكرة فيها ممكنة ولا مطلوبة دوليّا، فأجهِضت الثورة بالتوافق.
أصرّ الشّعب السوري على الحرّية والكرامة وثبتت الثورة على مقاربتها السّلميّة وهويتها الوطنية، فوصلت إلى نقطة مفصليّة بعدما حقّق الشعب مكاسب معتبرة وصنع واقعا جديدا، وعدّل نسبيّا ميزان القوة مع النّظام الذي سقطت هيبته.
كانت اللّحظة تقتضي تغييرا في الإستراتيجية بحيث يصبح الهدف تثبيت المكاسب. كان المطلوب سياسة وقيادة متجرّدة في مستوى النّجاحات الميدانية تستثمرها، وتدير الصراع ملتزمة بعوامل نجاح الثورة وباستقلال القرار، فتحصّن الثورة وتستعصي على التّوظيف الإقليمي والدّولي.
سارت الأمور باتجاه التّصعيد ليصبح المطلب إسقاط النّظام من دون أيّ خطّة واضحة وخطط بديلة. كان تحوّلا اعتباطيّا أوقع الثّورة في محظورات ومطبّات خطيرة، وساعد النّظام على نسف عوامل نجاح الثورة بعسكرتها وأدلجتها وتطييفها وتشويهها وتدويلها.
لا شكّ أنّ اللّهفة على السّلطة جعلت البعض يدفع بهذا الاتّجاه، كما دفعت اللّهفة على الغنائم الرّماة للنّزول من جبل أحد، ففتحت ثغرة حوّلت النّصر إلى هزيمة، لكن العامل الأهم الذي دفع بهذا الاتّجاه هو وهْم تكرار السيناريو التّونسي أو المصري.
هذا القياس كان خطأ سياسيّا فادحا؛ فباستثناء التشابه الظّاهري لا يكاد يوجد وجه شبه بين الحالة السورية والحالتين التونسية والمصرية. ففي تونس ومصر جيش وطني جمهوري، ومجتمع مدني حيّ، وهامش معتبر من الحرّية يزيد وينقص، وتاريخ من الممارسة والمعارضة السياسية.
أما النظام في البلدين فهو بلا عصبيّة عقائديّة أو طائفيّة تسنده، وبحكم انتمائه للمحور الغربي وحرصه على الظّهور كنظام ديمقراطي فهو أكثر قابلية واستجابة للضغوط في ملف حقوق الإنسان، ممّا يلجم قدرته على البطش.
والجيش التونسي مهمّش وبعيد عن السياسة، أمّا الجيش المصري -الذي يحكم منذ 1952- فكان له موقف سلبي من مبارك بسبب التوريث. وفي الحالتين لم يتطلّب الأمر سوى ضغط أمريكي خفيف ليتخلّى الجيش عن النّظام ويترك رأسه يسقط، مع الحفاظ على منظومة الحكم ثمّ ترميمها وتلميعها.
في سوريا نظام طائفي شمولي له تاريخ حافل بالبطش بمعارضيه، وغير معني بصورته وسمعته، يحكم مستندا إلى حزب عقائدي وجيش طائفي، ولديه حلفاء موثوقون وأقوياء، ويده طائلة في الإقليم. فهو متجذّر محلّيا وإقليميا ودوليا.
وقد ساهم في تغذية هذا الوهم التصريحات النّاريّة لباراك أوباما وهيلاري كلينتون ورجب طيب أردوغان وغيرهم، التي ظلّت تؤكّد على رحيل بشّار الأسد. وما إن بدأ وهم تكرار السيناريو التونسي والمصري يتبخّر حتّى حلّ محلّه وهم تكرار السيناريو اللّيبي، أي تدخّل أميركا وحلف النّاتو لإسقاط نظام الأسد. ونفس التصريحات النّاريّة غذّت هذا الوهم.
وهنا أيضا كانت الحسابات خاطئة تماما؛ فليبيا بلاد نفطيّة قريبة من أوروبا وبلا دولة، والقذافي ليس له حلفاء. فإسقاطه كان فسحة، وكان مغريا ليس فقط لضعف النظام وغنى البلاد ولكن أيضا لأنّ القذافي كان صندوقا أسود مليئاً بالمعلومات والأسرار الخطيرة.
وفي المقابل؛ فاق ما يحدث في سوريا كلّ ما تطلبه وتحلم به إسرائيل، فلم يكن مطلوبا سوى تمديد الحرب الأهليّة بعد تطويقها. ولذلك تمّ تسليح المعارضة وتمويلها دون تمكينها من أسلحة نوعيّة تحسم بها المعركة.
وللأسف ليست هذه المرة الأولى التي تُبتلى فيها سوريا بكارثة نتيجة قرارات مبنيّة على الأماني. فقد دمّر النّظام مدينة حماة سنة 1982 وقتل الآلاف من شباب سوريا، دفعوا إلى المحرقة بأوهام. ومرّت الكارثة دون تقييم ومحاسبة كأنّها كارثة طبيعية.
تضرّرت الثورة السورية كثيرا من تذبذب الموقف السياسي التركي (على عكس الموقف الإنساني) وعدم اتّساق الأفعال مع التصريحات، كما تضرّرت كثيرا من تدفّق المقاتلين الأجانب من كل حدب وصوب (بصرف النّظر عمّن سهّل دخولهم ومن درّب ومن موّل ولماذا؟)، ممّا ساهم في تعقيد وتعفين الوضعيّة على الأرض وتشويه الثّورة، فبدت كأنّها حرب بين استبداد وإرهاب، كل منهما مدعوم إقليميّا ودوليّا.
تحوّلت سوريا إلى ساحة لحرب إقليمية دوليّة مدمّرة، وارتهن القرار السوري للخارج، فضاعت الثورة في متاهات الأجندات الإقليمية والدّوليّة، كما ضاعت الثورات العربيّة الأخرى وضاعت القضية الفلسطينية من قبل.
مرّة أخرى نحن بصدد فرصة كبيرة تضيع وأخطاء فادحة تتكرّر؛ فبالأمس القريب تحطّم العراق بطريقة شبيهة: استبداد وحسابات خاطئة واستقواء بالخارج.
وكلّ الثورات والفرص التي صنعتها الشّعوب العربية ضاعت بسبب هوس النّخب بالسلطة كغاية تبرّر كلّ وسيلة، ممّا يدفعهم للارتماء في أحضان القوى الخارجية المتنفذة، لتأتي بهم إلى الحكم على ظهر دبّابة أو بانقلاب أو بصفقة خسيسة وإخراج ديمقراطي.
لكن إن كان للانهيار من فائدة فهي الدّروس القاسية لمن يريد أن يعتبر، وإتاحة الفرصة لبداية جديدة، بعد أن يتعذّر الإنكار والترقيع ويبطل مفعول المسكّنات. وهذه بعض العبر التي يمكن أن نخرج بها من ثورة ملهِمة تحوّلت إلى نكبة:
أوّلا: أنّ الدّمار الشّامل الذي أحدثته في العقول والنّفوس والمجتمعات العربيّة قرون من الاستبداد والاستعمار يحتاج إلى عمل إصلاحي جذري وإلى أجيال، فالمهمّ هو وضع البلاد على الطريق الصّحيح باتّجاه التحرّر والنّهوض.
وفي المقابل، لا كثرة الجهود والتضحيات ولا الزّمن يمكن أن يصحّحا مسارا خاطئا. أمّا محاولات التغيير الفوقي والسريع فكلفتها عالية وثمرتها محدودة، وقد يفوق ضررها نفعها. كما أنّ التغيير المتدرّج يوفّر الفرصة لنشأة وتكوين نخب بديلة لنخب نرجسيّة فاشلة لطالما خذلت شعوبها بوعي أو بدونه.
ثانيا: أنّ الإصلاح له طريق واحد: توعية الشعب وتحفيزه للانخراط في مقاومة الاستبداد والفساد والتخلف والتبعيّة، مقاومة سلميّة في حدود المستطاع مهما كان الثّمن ومهما طال الزّمن "إن أريد إلاّ الإصلاح ما استطعت".
فالمطلوب إصلاح المجتمع مع الحفاظ على الوطن وليس إسقاط النّظام بأي وسيلة وثمن. ولذلك وجب تحصين التحرّكات الشّعبيّة ضدّ العسكرة والاستدراج للعنف أيّا كانت المغريات والمظالم.
ثالثا: أن تستبعد تماما فكرة الاستعانة والاستقواء بالخارج أيّا كان، فلا تدخّل عسكريا ولا تسليح ولا تمويل ولا تفريط في استقلال القرار الوطني، ويُستثنى من ذلك التّعريف بالقضايا العادلة، وكسب الرأي العام العالمي للضّغط والإحراج.
فالتبعيّة هي أصل الدّاء وأمّ الخبائث، ولا ديمقراطيّة ولا نهوض في ظلّ التّبعيّة، ولا يمكن لمشروع إصلاحي أو ثوري أن ينجح إذا بدأ بتكريس التبعيّة. وفي هذا الإطار ينصح بقراءة ردّ معاوية بالرفض الحاسم على قيصر الرّوم الذي عرض عليه المساعدة في مواجهة علي بن أبي طالب.
رابعا: انتكاسات موجات الرّبيع العربي أكّدت أنّنا تقريبا ما زلنا محتلّين، وبالتالي أيّ كلام عن تحزّب أو انتخابات أو صراع على السّلطة هو سابق لأوانه ويكرّس التّبعيّة، فنظلّ ندور في حلقة مفرغة، وبالتالي ينبغي أن يؤجّل حتّى يتحرّر الوطن.
ومن ثمّ فنحن بحاجة إلى حركة وطنيّة، إلى ثورة شعبيّة سلميّة تحت الراية الوطنية تؤطّر الشّعب حول مشروع وطني للتحرّر والنّهوض. وممّا يساعد على ذلك أنّ الغالبيّة العظمى من الشعوب غير مؤدلجة وغير متحزّبة.
لا شكّ أنّ هذه الجولة الثورية الإصلاحيّة في سوريا قد تبخّرت فرصها في النّجاح. ولا أحد من الأطراف الإقليمية والدّوليّة المتصارعة أراد لهذه الثورة أن تنجح (كلّ لأسبابه وبطريقته)، ومن رغب لم يكن جادّا أو موفّقا.
سوريا تسير في نفق مظلم مسدود، والسّوريّون يخربون سوريا بأيديهم وأيدي غيرهم تنفيذا لأجندات إقليمية ودوليّة التقت على منع نجاح الثورة، ونهاية هذا المسار نهاية سوريا. وباستثناء الجماعات الإرهابيّة وأعداء سوريا، لا أحد يرضى لسوريا أن تواصل في هذا المسار.
ورغم أنّ المأزق السوري عصيّ على المخارج السهلة والحلول المرغوبة؛ فإنّ بعض المعالم قد تساعد في التّوصّل إلى أقلّ الخيارات سوءاً:
أوّلا: في كلّ مجالات الحياة، تقتضي الحكمة ممّن يدرك أنّه يسير في طريق خاطئ أن يتوقّف ليصحّح المسار. هكذا يفعل السائق إذا ضلّ الطريق، وهكذا يتصرّف التّاجر الذي يغلق تجارته الخاسرة ليحد من الخسائر، وينقذ رأسماله ليستثمره في فرصة أخرى.
ولقد بارك الرسول (ص) انسحاب خالد بن الوليد بجيشه في غزوة مؤتة عندما وجد نفسه في معركة غير متكافئة، حقّق شوطها الأوّل للمسلمين الندّية مع الإمبراطورية الرومانية القوّة العظمى الأولى في حينها.
ثانيا: في كلّ المجالات -وخصوصا في السّياسة- المكابرة قاتلة، وكذلك الاستبعاد الاعتباطي للخيارات وحصرها بدون موجب في خيار واحد وقطع خطّ الرجعة، وتلك أمراض لطالما فتكت بالسياسة العربيّة. النّجاعة في السّياسة تقتضي الإبقاء على جميع الخيارات مفتوحة، لتعزيز القدرة على المناورة والتفاوض.
كلّ ذلك يدفع باتجاه واحد: التفكير في الجولة القادمة من معركة الإصلاح والتغيير، وهذا يقتضي إيقاف هذه الجولة وهذا المسار المنحرف والمدمّر للحد من الخسائر، وذلك بأيّ طريقة مهما كانت قاسية ومؤلمة، لأنها لن تكون أقسى وأكثر إيلاما من الهروب إلى الأمام. فالأيّام دول والسّياسة سجال، وإيقاف النّزيف لتصحيح المسار خير، وخير البرّ عاجله.
المصدر: الجزيرة نت