كلنا أحببنا "النمور في اليوم العاشر". منذ ما يقارب أربعين عاماً ونحن، حين نريد أن نحكي عن زكريا تامر، في جلساتنا أو في كتاباتنا، نرجع إلى ذلك النمر الذي سحق السجنُ والاستبداد والخنوع والاستسلام كبرياءه إلى أن تحوّل الى آكل أعشاب هشّ وضعيف، فصار مواطناً عربياً، وتحول قفصه إلى مدينة أو إلى وطن. لم يذكر لنا زكريا تامر الوقت الذي يمكننا فيه أن نترقب رجع نداء النمر إلى الغابات إلى مساحته الطليقة، أو إلى حريته القصوى وخرمشة جدران الذاكرة المعجونة بحاضر الخوف واليأس ووطأة الظلم، حيث تفيض الدماء لينتبه النمر إلى عنفوانه الأصيل، فينتفض على مروّضه وجلاّده ويحطم القفص. بعد ما يقارب الأربعين عاماً، حتى زكريا تامر نفسه انتفض على كل شيء، ولو كان عليه أن يعيد كتابة قصته، لاختار لها نهاية مغايرة لتلك التي وصل إليها في وقوفه الى جانب النمور، في أعوام الانتفاض المملوءة بالدماء والتضحيات.
كنا في المخيم. وهناك تعرفنا إلى أدب زكريا تامر. كنا نحسّ أنه لا يكتب عن المواطن السوري في حارات دمشق وحسب. كان يحكي عنّا، نحن الذين نعيش عالماً مماثلاً لعوالم المسحوقين في كل مكان. ومع كل ذلك البؤس والفقر والانغلاق الغيتويّ في مخيمات اللاجئين في لبنان، إلاّ أننا كنا نسعى إلى قراءة كل ما هو جديد متوفر. وحين بدأ زكريا تامر ينشر قصصه في الستينات، كان معلمونا في مدارس وكالة الغوث في المخيم يشجعوننا على القراءة. وهناك عرفنا أدب زكريا تامر. ومن هناك، سنذكر هؤلاء المعلمين بكل الحب والعرفان، لأننا عرفنا منهم هذا الكاتب الكبير الذي يشبهنا، بما حملت روحه من قسوة البدايات في الحياة. ولسوف نشعر دائماً بالعرفان للحياة، لأنها أعطتنا فرصة العيش في زمن زكريا تامر، إلى أن تابعنا، بلهفةٍ متجدّدةٍ، رحلته في الكتابة، إلى أن بلغ، قبل أيام، السادسة والثمانين عاماً، ونحن نمشي بكسلٍ ربما، نحو نهاية العقد السابع من العمر.
في لندن، في الثمانينات، وفي مكاتب مجلة الدستور، حيث عمل مديراً للتحرير، التقيت زكريا تامر وجهاً لوجه. ولم يكن اللقاء صاخباً، لكنه ترك صخباً في روحي، وأنا أرى إلى هذا الكاتب الكبير الذي وكأنه لا يزال يعمل حدّاداً بسيطاً في البحصة، الحارة البسيطة من حارات دمشق. كنت أستمع إلى أحاديثه بلهجة أبناء الحارات الشامية الأصيلة، وحكاياته الساخرة، بحميميةٍ عن أصحابٍ له، مضوا قبل سنين طويلة، وكأنهم حاضرون للتو في مكاتب المجلة في نوتنغ هيل غيت في لندن. أحاديثه هي قصصه، وقصصه تجعلني منذ افتتاحياتها على علاقةٍ، لا غربة فيها، وأحس أنني أعرف شخصياتها، كما لو أنهم يعيشون في حارتي في المخيم الذي غادرته كما غادر الكاتب البحصة.
أجد الحكي عن أهمية زكريا تامر كاتباً وقاصاً لا أهمية له، إذا لم تعرف كل كتاباته، وربما إذا لم تعرفه شخصياً، أو تعرف عالم الحارات الشعبية، فلا التوصيفات النقدية والمقارنات التي تضعه في سياق أدبيٍّ سوريالي أو أوروليّ (من جورج أورويل)، ولا تصنيفه ضمن كتّاب القصة القصيرة العربية أو العالمية له أهمية في التوغل في عالمه الأصيل، في حارات دمشق، وفي مصانع الحدادة ومزارع الغوطة وبساتين الأحلام المنكسرة والملفوفة باليأس والأسى والإحباط والعجز والخوف والرقابة في بلاده التي حملته من طفولةٍ قاسيةٍ إلى أقصى ذروةٍ يمكن أن تصل إليها القدرة على التعبير، لتصبح تعبيراً عن خلاصة الفجيعة الإنسانية في أي مطرحٍ يذرف فيه الإنسان دمعاً إزاء مصيره البائس.
لا معنى للكلام عن الثورة السورية، حين نحكي عن زكريا تامر، وعن مطرحه فيها، فهو من نحّاتي الثورة الأوائل، بالمطرقة والسندان والكلمة والمخيلة التي لا تشبهها مخيلةٌ في قسوتها ودعوتها إلى الخلاص.
المصدر: العربي الجديد - نصري حجاج
↧