التحقت "الدورة 102" بقوات النظام، في 1 نيسان/إبريل 2010، ليقضي منتسبوها "خدمة إلزامية" يفترض أنها 18 شهراً. إلا أن "الدورة 102" دخلت عامها الخامس، في "الاحتفاظ"، في صفوف قوات النظام، رغم صدور قرار تسريحهم في 1 تشرين الثاني/نوفمبر 2011. وتنص "الأنظمة العسكرية" في سوريا على أن مدة "الاحتفاظ" يجب ألا تتعدى ستة أشهر، ومع ذلك استمر "الاحتفاظ" في كل "الدورات" التي تلت "الدورة 102" بالطريقة ذاتها.
"دورة الجماجم والهياكل العظمية"، بحسب ما يسميها من بقي من عناصرها، أو "المنحوسة 102"، لاتزال المثال لكل من يتم تجنيده في قوات النظام، فلا أمل بتسريح قريب لأي عسكري في "الخدمة الإلزامية".
الرد الرسمي الوحيد حول عدم التسريح، أتى من "رئيس لجنة الأمن الوطني" فيصل الخوري، بالقول: "لا نستطيع تحديد مدة الاحتياط بسبب الأحداث التي تجري على أرض الوطن، فلا يمكن تحديد المدة الزمنية كون الحرب ليس لها مدة زمنية واضحة". تصريح الخوري كان في جلسة يتيمة لـ"مجلس الشعب" في 24 تموز/يوليو 2016، نوقش فيها، لأول وآخر مرة، موضوع "الدورة العسكرية 102".
جنود "الخدمة الإلزامية" في "المنحوسة 102"، وما تبعها ممن طالت "مدة الاحتفاظ" بهم، من جميع المناطق والطوائف، وتتراوح مواقفهم السياسية بين المعارضة السلبية والحياد والتأييد، ويخدمون في مختلف الألوية ومعظم الجبهات داخل وخارج المدن. سِمَتُهم العامة الفقر، فلو أتيح لهم بعض المال لاستطاعوا إيجاد حلول لوضعهم المستعصي. معظمهم قتلوا، انشقوا أو فروا من خدمة لا يوجد سبب، حتى لمن يرغب بها، في استمرارها كل هذا الوقت.
أولئك الذين يرون في أنفسهم "رجالاً مدافعين عن الوطن ضد الإرهابيين" هم الأكثر دفاعاً عن أنهم قدموا ما يكفي، بينما ينعم أبناء المسؤولين والأغنياء في أسرّتهم الدافئة. أولئك يكيلون النقد لجميع مسؤولي الدولة دون تمييز، لكنهم يحتفظون بفخرهم في "الدفاع عن سيادة الرئيس".
هم فعلاً محرومون أمام آخرين يستطيعون الحركة بحرية في البلاد؛ من الاصطياف والسهر خارجاً. حتى زيارة الأهل غدت حلماً بالنسبة للأفقر بينهم، أولئك الذين لا يملكون ثمن رشوة الضابط المسؤول لاستحقاق إجازة ما، ويلقى بهم دوماً على الخطوط الأمامية.
أما من تتيسر لهم بعض القدرة المالية، فلديهم مجموعة من الخيارات؛ من الفرار من الجيش إلى خارج البلاد إن أرادوا، إلى تسريح بواسطة يأتي بعده "التفييش" وهو أن تقضي أيام خدمتك لا حيث يجب أن يكون دوامك حسب الفرز، وإنما حيث تريد.
وهم مجندون لممارسة القتال، وتبقى أساليبهم للتعاطي مع استعصاء حالهم سلمية بالكامل، ومعظمها في مواقع التواصل الاجتماعي، في رسائل وتعليقات تخاطب صفحات وموقع القوات المسلحة، ووزارة الدفاع، ومجلس الوزراء، وأعضاء مجلس الشعب أو حتى إرسال بريد للرئيس للتعاطف معهم. العسكري من "الدورة 102"، ميسر، من درعا، قال: "لم يبق شيء لم نجربه، باب لم نقصده، طريقة، اختراع، تقليد، إلحاح، شكوى، كل ذلك لم يجدِ في فك نحسنا، وسنموت هكذا لا محالة". ميسر يؤكد أنه "سيتفاجأ أيما مفاجأة" إن صدر أمر تسريحه.
فقدان الأمل بالتسريح هو حال الأغلبية، هكذا تبدو ردود فعل البعض، بتشجيع غيرهم من الشبان على السفر أمراً منطقياً. هم لا يريدون لإخوتهم مصيراً كمصيرهم، ينتهي بالموت أو العجز أو انتظار خاسر حتى إشعار آخر، لا يأتي. لكن هؤلاء ليسوا بكثر، فمعظم العسكريين يحسدون المدنيين على حياتهم ويتمنون لو كانوا مكانهم. وعادة ما يتكون الرأي حسب المكان الذي تقضي فيه خدمتك، والمقدار المحدد لك من المعاناة. بعدها لن تضل مشاعرك الطريق، ستكره الآخرين إن تعثرت حياتك، وستسترخي أكثر تجاه رغباتهم إن أتيح لك رفاه ما.
صفحاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي، يُوحّدها الانزعاج من أي فعالية تقام في مناطق النظام؛ ماراثون في دمشق، عرض أزياء أو احتفال في اللاذقية وما يوثق عنه من صور. فتسري النار في قلوبهم امتعاضاً من استمرار الحياة "فوق دماء الشهداء". أما الإعلانات الخاصة بـ"التأجيل" ومراسيمه للجامعيين والمسافرين، فهي سياسات تسير عكس رغباتهم تماماً، وهم من يصرون على أن يشاركهم الجميع "الدفاع عن الوطن". وبعد صدور تقرير عن وجود أكثر من 800 ألف حالة "تخلف" عن "الاحتياط" و"الإلزامية"، تغدو فكرة وجود أي شاب خارج قوات النظام مزعجة أيما إزعاج.
يصف المجندون الإلزاميون حال الشباب خارج الجيش بالقول: "يجلسون في المقاهي والحدائق ويتمشون في الشوارع". أما أخبار المصالحات ونقل قوات الجيش الحر أو الفصائل المسلحة إلى إدلب، فتثير استهجان كثيرين ممن يرون أنهم "لم يضحوا بكل هذا لتتنازل (القيادة) بهذه السهولة".
بطبيعة الحال تغدو حال المرأة غير المطالبة بكل هذا والمحتفظة بكل امتيازاتها الخاصة بالزواج من مهر وبيت وما إلى ذلك مستفزة للعسكر. هم يضحون وهي تمارس حياتها من دون اكتراث، بحسب ما يحلو لهم أن يظنوا. ولا يتورع البعض عن مطالبة النساء علنية بالمشاركة في "الخدمة العسكرية" متفاخرين بتطوع بعضهن في السنوات الأخيرة، بينما يكتفي الآخرون بآراء عنصرية ساخرة من حقوق المرأة ومطالبة بحقوق الرجل. ويؤسس ذلك شرخاً جديداً في العلاقات بين الجنسين، رغم تحمل النساء عبء الحرب بطريقة أخرى.
خضر سائق الدبابة في "الفرقة 18" من "اللواء 134"، كانت قد تعرضت دبابته لصاروخ ما تسبب في إصابته بشظايا وعجز بنسبة 35 في المئة، ولم يُقبل تسريحه حتى يدفع رشوة لضباطه، لا بل تم إرساله للخطوط الامامية في المعارك للضغط عليه من أجل الدفع. ويعاني كثير من عسكريي "الفرقة 18" من الليشمانيا ولا يقبل قادتهم إرسالهم للعلاج، أو إحضار الدواء لهم، وهم على خطوط الجبهة الأولى.
محمد، ينوي التبرع بكليته، كي يسمحوا بتسريحه، ويتمنى لو يصاب بالسكري، أو الربو أو السرطان، أو أي شيء يسمح له بالتسريح. ماهر، عسكري من "الدورة 102"، ورغم أنه "مفيش" يقضي معظم خدمته في المنزل مقابل دفع راتب الاحتفاظ 35000 ليرة سورية وفوقها 15000 للضابط المسؤول عنه، إلا أنه عالق لا يستطيع اتخاذ قرارات طويلة الأمد كالزواج أو السفر. ادعى محمد اصابته بالهستيريا أمام "اللجنة الطبية" وبدأ يتصرف كذلك حتى في حياته اليومية، من دون أن يتمّ تسريحه.
الاحتفاظ "المؤبد" كما يسميه أبناء كل الدورات التي تبعت "الدورة 102"، لا يتعلق فقط بالزمن، فالطعام لا يزيد أحياناً عن رغيف خبز وحبة بطاطا. كما أن القوانين والأنظمة تحدد الاجازة كل ثلاثة أشهر للعسكري، بالإضافة إلى رواتب من دون أي امتيازات ناشئة عن التقدم في الخدمة، إسوة بباقي العاملين في الدولة، ما يجعل رواتب المجندين المحتفظين والاحتياط في الجيش هي الأسوأ والأدنى في هرمية سلسلة رواتب الدولة السورية. ذلك وغيره جعل من الخدمة في قوات النظام حكماً بالسجن المؤبد مع الأشغال الشاقة، وإمكانية الموت في أي لحظة. فيما تتابع "الشرطة العسكرية" ملاحقة المتخلفين والفارين لتستمر حرب الحفاظ على الكرسي بطحنهم.
almodon
↧