واشنطن- مع ما أشيع عن مساعدة روسيا لدونالد ترامب في الانتخابات الأميركية ضد منافسته هيلاري كلينتون، ومع ترشيح ترامب لريكس تيلرسون وزيراً للخارجية الأميركية، يبدو وكأن المكارثية عادت للحياة الأميركية بعدما توفي صاحبها النائب الجمهوري جوزيف مكارثي عام 1957. مكارثي هذا كان من أكثر الشخصيات السياسية شهرة في الولايات المتحدة عام 1950 وسبب ذلك كان ادعاؤه دون دليل بوجود أعدادٍ كبيرة من الجواسيس السوفييت والمتعاطفين معهم داخل الحكومة الأميركية ما يؤثر في العمق على سياساتها الداخلية وحول العالم.
من هنا جاء تعبير “المكارثية” كما هو معلوم، الذي بات يطلق على المشككين بوجود عملاء أو أنصار أميركيين للاتحاد السوفييتي السابق أو لروسيا لاحقاً بين السياسيين وصناع القرار في أميركا، يشبه ذلك ما يروّج له الآن من اتهامات لترامب بأن نجاحه تم بمساعدة روسية غيرت من نتائج الانتخابات لصالحه وفق تقييم استخباراتي من الـ”سي أي إيه”، وهذه المرة بدون دليل مثبت أيضاً.
تلك المقدمة كانت للحديث عن رجل اسمه ريكس تيلرسون ما كان ليحلم بمنصب وزير الخارجية الأميركية لولا صنوه في عالم الأعمال الرئيس ترامب الذي فضله على عشرة مرشحين لهذا المنصب ومنهم اثنان من السياسيين المخضرمين المشهورين، هما المرشح الجمهوري الخاسر في انتخابات الرئاسة عام 2012 ميت رومني، والجنرال المتقاعد ديفيد بترايوس.
ترامب اختار تيلرسون (64 عاما) بعد أن دعمه عدد من أصحاب الخبرة الجمهوريين مثل وزير الخارجية الأسبق جيمس بيكر، ووزيرة الخارجية السابقة كونداليزا رايس ووزير الدفاع السابق روبرت غيتس. لكن السؤال الذي يشغل بال الأميركيين كما يشغل بال العديد من الحكومات الغربية هو عن المغزى من هذا الاختيار، بالرغم من كون الرجل يتمتع بعلاقات وثيقة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي منحه وسام الصداقة عام 2012 بعد صداقة جمعت بينهما امتدت لأكثر من 20 عاماً، إضافةً إلى أن تيلرسون كان قد انتقد بقوة العقوبات الأميركية التي فُرضت على روسيا بسبب تدخلها في أوكرانيا.
يبدو أن مصير أوكرانيا وشبه جزيرة القرم لم يعد يعني الولايات المتحدة بإدارتها الجديدة أكثر مما تعنيها مسألة تقاسم الأرباح مع روسيا في استخراج النفط والغاز وغير ذلك من مشاريع استثمارية ضخمة. المرشح القوي لمنصب وزير الخارجية الجديد تيلرسون يترأس مجلس إدارة خامس أقوى شركة نفط في العالم وهي “إكسون موبيل” منذ عام 2004، وكانت الشركة قد وقّعت في عهده مع شركة “روسنتوف” الروسية العملاقة في مجال التنقيب والإنتاج عام 2011 اتفاق شراكة نفذت على إثره عشرة مشاريع مشتركة في روسيا حسب شبكة سكاي نيوز.
تيلرسون، وحسبما تقول شبكة “إن بي سي” الإخبارية، كان قد تمكن في نفس العام 2011 من عقد صفقة مع الكرملين للوصول إلى موارد القطب الشمالي النفطية في روسيا، إلا أن هذا الاتفاق تعطل عندما دخلت العقوبات الأميركية ضد روسيا حيز التنفيذ بسبب احتلالها جزيرة القرم وتدخلها في شؤون أوكرانيا الداخلية. وإذا أخذنا في الحسبان أن وزير الخارجية في الإدارة الأميركية يعتبر المستشار الأول للرئيس في جميع الشؤون والسياسات الخارجية، ويُعدُّ أهم أعضاء المجلس الوزاري، ويحتل الترتيب الرابع بعد نائب الرئيس ورئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الشيوخ، فإن ذلك لا بد أن يعني انعطافاً حاداً في السياسة الخارجية الأميركية يتجه نحو تنمية الاقتصاد الوطني المرحلي ولو على حساب الاستراتيجية السياسية بعيدة المدى التي واظبت عليها معظم الإدارات الأميركية السابقة.
رجل النفط الشهير يتمتع بعلاقات وثيقة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين
السياسة في خدمة المال
في إطار المنطق الأميركي الجديد فإن الحديث في السياسة يتبع الحديث عن الاقتصاد وليس العكس. أي أنَّ السياسة ستكون في خدمة الاقتصاد، وليس الاقتصاد في خدمة السياسة كما كان الحال في عهد أوباما. صرح ترامب بذلك مرات عديدة أثناء حملته الانتخابية وخلال مناظراته الثلاث مع هيلاري كلينتون، وهو وصف بوتين بأنه ذكي لأنه نجح في تأمين مكان له على شاطئ المتوسط حيث كنوز الغاز تحت الماء، وحيث يمنع أيّ مشروع يهدف إلى وصول الغاز القطري إلى أوروبا عن طريق سوريا.
وفي إحدى مناظراته التلفزيونية مع منافسته كلينتون قال “إننا ندافع عن دول الخليج على حساب المواطن الأميركي المنهك بالعمل فيما ينعم الخليجيون بالمال الذي يوفره لهم البترول بسبب حمايتنا لهم، وإن هذه الدول ما كانت لتستمر لولا أميركا، ولا بد -حسب قوله- من تغيير هذه المعادلة؟ ليدفعوا لنا ثمن حمايتهم إذن”. ويبدو إضافة إلى هذا أن فريق ترامب يتكامل فكرياً بوجود تيلرسون.
البيان الذي صدر من مكتب ترامب بشأن تيلرسون يقول إن الأخير، سيكون مدافعاً قويا عن مصالح أميركا الحيوية، وسيساهم في تغيير سنوات من السياسة الخارجية السيئة، والأعمال التي أضعفت أمننا ومكانة أميركا في العالم. وفي نفس البيان يقول ترامب “لا يسعني التفكير بشخص أكثر استعداداً وكفاءة لأداء الخدمة كوزير للخارجية في هذه الأوقات الحساسة من تاريخنا من تيلرسون”، مضـيفاً “إن تيلرسـون عرف كيـف يدير مـنظمة ذات بعدٍ عالمي، وهو ما يعتبر أمرا مهماً لإدارة وزارة خـارجية نـاجحة”.
وبنفس القدر من الحماس رحبت كونداليزا رايس وزيرة الخارجية في عهد الرئيس جورج دبليو بوش بهذا التعيين، مع ملاحظة أن رايس تحمل شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية ومتخصصة في الشؤون السوفييتية، وعملت في البيت الأبيض مع الرئيس جورج بوش الأب كخبيرة في الشؤون السوفييتية بين عامي 1989 و1991 وأنها من رواد نظرية الفوضى الخلاقة لنهوض شرق أوسط جديد من تحت الركام.
الجمهوريون العائدون
تعيين تيلرسون أيده بوب كوركر رئيس مجلس الشيوخ الأميركي بالقول “إن تيلرسون لديه معرفة كبيرة بالعالم”، كما أكد أنه سيدعمه. فيما انتقد السيناتور الجمهوري جون ماكين، والسيناتور الديمقراطي بيرني ساندرز تعيين تيلرسون على رأس الخارجية الأميركية بسبب علاقته الوطيدة ببوتين الذي يعتبره مكين سفاحاً يقتل السوريين. وُلد تيلرسون عام 1952 في ويتشيتا فولز بولاية تكساس، وحصل على درجة البكالوريوس في الهندسة المدنية عام 1975، من جامعة تكساس، ويُدير تيلرسون شركة “إكسون موبيل” منذ عام 2004 واكتسب رجل الأعمال الأميركي خبراته التفاوضية من خلال إبرام صفقات مع دول أجنبية لصالح الشركة الكبرى، والتي تُعتبر خامس أكبر شركة أميركية من حيث القيمة السوقية، وهي من أكبر المضاربين في البورصة الدولية.
يسارا الممثل الأميركي الشهير أليك بالدوين ينتحل شخصية ترامب في مشهد يسخر من العلاقة المميزة ما بين تيلرسون وبوتين
هل يتعارض منصب وزير الخارجية لأقوى دولة في العالم مع مصالح وزير الخارجية الخاصة؟ وكيف سيدير هذا التعارض بحيث لا يخسر ولا تخسر أميركا، وهل سيفضّل خسارته لصالح مسؤوليته الوطنية والأخلاقية؟ قال ريتشارد باينتر، وهو محامي قوانين الأخلاق السابق للرئيس جورج دبليو بوش “إن الكثير مما تفعله وزارة الخارجية له تأثير على صناعة النفط. وليس من العملي أن يمتلك وزير الخارجية أسهماً في شركة نفطية”. وأضاف “إن المشاركة في أيّ تحرك حكومي له تأثير متوقع على استثمار الشخص تعتبر جريمة”.
روسيا حليفة إيران
على قائد الدبلوماسية الأميركية الجديد التعامل مع منطقة الشرق الأوسط المضطربة، ومواجهة الهيمنة العسكرية من جانب روسيا وإيران على سوريا دعماً لنظام بشار الأسد. ومن المنتظر أن يجلس في واجهة أيّ طاولة مفاوضات مع روسيا تتناول الصراع السوري، بينما عليه في الوقت ذاته إدارة العلاقات مع الدول الحليفة لواشنطن في المنطقة والتي تعارض نظام الأسد.
وأخيراً يظلُّ السؤال المطروح أميركياً وأوروبياً وفي الشرق الأوسط بصورة أخص هو هل يستطيع ترامب بواسطة ممثله تيلرسون أن يحقق مصالح أميركا العليا دونما صدام مع سياسة روسيا صديقة إيران التي يناصبها العداء؟ وهل بإمكانه إعادة الحرارة للعلاقات التي فترت مع دول الخليج خلال ولاية أوباما من خلال مقايضة مالية قد لا تقدر عليها تلك الدول؟ ثم كيف سيدير تيلرسون مفاوضات إعادة النظر في الاتفاق الخاص بالملف النووي الذي أبرمته إدارة أوباما ودول أوروبا الخمس مع إيران دون حاجة للتهديد بالقوة؟ وكيف سيتفاعل مع رغبة ترامب في إلزام الصين بتنازلات حول قضية التجارة الحرة وتهديده لها إن لم توافق بالتراجع عن دعم واشنطن لصين واحدة؟
ما هو سلبي في قدرات الرجل أنه لا يملك خبرة دبلوماسية ولا يعرف الكثير عن البروتوكولات. لكن الإيجابي أنه اعتاد لقاء كبار قادة العالم وعقد صداقات متينة معهم بهدف الترويج والدفاع عن مصالح الشركة العملاقة التي يديرها وتنشط في حوالي 50 بلداً بين قطر وغينيا الجديدة مروراً بالسعودية والتي يملك أسهما فيها تقدر قيمتها بـ150 مليون دولار.
العرب توفيق الحلاق في 2017/01/07،
↧