ذكريات ريما مروش عن الأب فرانس، الأب اليسوعي الذي فضل البقاء في حمص القديمة لمساعدة المحاصرين هناك. إلا أنه اغتيل قرابة الساعة 09:30 صباحاً من يوم الاثنين 7 أبريل 2014 داخل الكنيسة التي كان يقيم بها في حي الحميدية.
أتذكر صلاة الجمعة التي كان يقيمها فرانس فان دير لوغت، في كنيسةٍ صغيرة في بستان الديوان في حمص في التسعينيات. كان خبر وفاته صدمة بالنسبة إلى من يعرفه، فبحسب الفاتيكان، تعرض الكاهن الهولاندي، الذي عاش في سوريا منذ عام 1966، إلى الضرب، وقتل في ديره رمياً بالرصاص على يد مسلح مجهول.
كنت في السابعة من العمر، حين انتقلت عائلتي إلى هذه المنطقة، وكان "أبونا فرانس"، من أطول الأشخاص الذين عرفتهم في حياتي، ولكن في آخر صورةٍ له، ظهر وكأنه أقصر من المعتاد. وكأن سنوات الحرب كانت السبب وراء ذلك. ولكن حتى قبل بداية الحرب، كان أبونا فرانس يمشي وظهره ملتوٍ، كأنه يحمل جميع خطايا رعيته.
كان نحيلًا وشعره رمادياً، ويرتدي دائماً نظاراته الطبية. كما أنه تمتع بذاكرةٍ قوية، فكان قادراً على تذكر أسماء جميع أعضاء رعيته، وتفاصيل مشاكلهم. كان يستوقفهم ويسألهم هل استطاعوا تخطي مشكلةٍ ما كانوا قد تحدثوا عنها معه.
في بستان الديوان، لم يعتد الأطفال التخلف عن الذهاب للكنيسة. فهناك تتاح لهم فرصة لقاء أبونا فرانس وبعض الأصدقاء. كان كل من يتردد إلى الكنيسة سعيداً. خلال تلاوته الإنجيل، كان يتوقف ليشرح بعضاً منه باللهجة السورية، جاعلًا من الله قريباً من رعيته لغوياً. أحبه الصغار والكبار، إذ كانت الابتسامة تزين وجهه دائماً، وإن لم يكن سعيداً. ومع أنّه كان يترك مسافةً بينه وبين الآخرين، لكنه غالباً ما يمازحهم. لعل الأطفال أحبوه بسبب المخيمات الصيفية التي نظمها سنوياً على هضاب طرطوس، فاستطاعوا الذهاب في رحلاتٍ طويلة مشياً وهم يغنون بعض الأغاني على طول الطريق.
في الثمانينيات، أسس الأب فرانس، مع عمي الراحل عبدالمسيح عطية، "الأرض". وهو مركزٌ يؤمن الخدمات الطبية والتعليمية للأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة في حمص وريفها. وعزز المركز الحوار المسيحي المسلم. أما عطية الذي كان مهندساً مدنياً فصمم مباني جميلة على شكل قبب وتبرع بـ23 هكتاراً من الأرض المزروعة بالدوالي واللوز وشجر الزيتون. لم يؤمن مركز "الأرض" الرعاية للأطفال والفرص الوظيفية للأشخاص الذين يعيشون في المناطق القروية فحسب، بل كان أيضاً ينتج أفضل أنواع النبيذ. في بداية الحرب السورية استقبل المركز عدداً كبيراً من الأشخاص، الذين تركوا بيوتهم في منطقة القصير، ونتيجة الصعوبات في الوصول إلى ذلك المركز بسبب القتال العنيف بين قوات النظام والمعارضة علّقت جميع أعماله.
تركنا كنسيتنا في حمص عندما كنت في الـ11 من عمري، وانتقلنا إلى بولندا. لكنني استمررت في متابعة قصص الأب فرانس، خصوصاً عند اندلاع الحرب في سوريا. كان أصدقائي يقولون لي إنّه في بداية الحرب، حين استخدمت قوات النظام الذخيرة الحية، كان الأب فرانس يركب سيارته الفولكسفاغن الصفراء الصغيرة، ويطوف شوارع حمص بحثاً عن مصابين. وإن عثر على أحدهم يأخذه إلى الكنيسة، ويؤمن له الرعاية الطبية الأساسية.
نشر له مقطع فيديو في يونيو 2014، وهو على مذبحه، حيث اعتاد إلقاء عظته، ويمكن للمرء أن يلاحظ العديد من اللافتات التي تشرح الوضع في المنطقة المعروفة في حمص القديمة: 8 حالات وفاة جراء سوء التغذية، و100 حالة يلزمها الخضوع لجراحةٍ طارئة، و250 عائلة تواجه الموت بسبب الجوع. يقول الأب فرانس: "نلتقي هنا كل يوم أحد في الكنيسة لأداء الصلاة، أما في أيام الأربعاء فنلتقي لنحتسي كوباً من الشاي من دون سكّر، لأنه لم يعد لدينا سكر. نحن كمسلمين ومسيحيين نعيش ظروفًا صعبةً ومؤلمة، ونعاني الكثير من المشاكل، أكبرها الجوع. فما من شيءٍ أصعب من رؤية الأهل يبحثون عن طعامٍ لأولادهم. إننا بحاجةٍ إلى المساعدة". تكلم الأب فرانس واصفاً الجوع، الذي أصبح ظاهرةً جديدة في سوريا، فحتى 2012 أو 2013، لم يكن تأمين الطعام مشكلةً. وينهي الأب فرانس مقطع الفيديو قائلًا: "نحن نحب الحياة ونحب أن نعيش ولا نريد الهلاك في بحرٍ من الألم والموت".
لم أفاجأ حين سمعت أقاربي يقولون إن الأب فرانس رفض مغادرة سوريا. فبالنسبة إلي، من المنطقي أن يبقى في حمص. لذلك كنت أجيب: "بالطبع لن يغادر. لقد علّمنا دائماً الوقوف إلى جانب المستضعفين. أتذكرون ذلك؟".
ومع أن نظرتي إلى الله والدين تغيرت في السنوات القليلة الماضية، بعد أن غادرت سوريا، لأن الله لم يعد بتلك الجاذبية بالنسبة إلي، بسبب اتباعي للتعاليم في الكنيسة الكاثوليكية البولاندية الكبيرة والباردة، عوضاً عن كنيسة بستان الديوان الدافئة. ولكن دائماً يراودني شعورٌ غريب بالكبرياء لأن الأب فرانس هو من علّمني المبادئ الأساسية لإيماني بالعائلة.
ولطالما راودني شعورٌ بأنه لم يمت. يقول مالك شيخ، وهو طبيبٌ في بالتيمور يتحدر من حمص، سبق أن التقى الأب فرانس: "كان أسطورةً في حمص. من المؤسف أنه توفي. ما زلت لا أستطيع تفهم هذا التصرف المقيت تجاه شخص كالأب فرانس. سوريا تموت وهي شيئاً فشيئاً تبتعد عن كونها منزلاً لي".
https://www.youtube.com/watch?v=LliVyiEHJQE
يقول فادي حاليسو، وهم عضو مؤسس لبسمة وزيتونة، وهي جميعة تعنى بتقديم المساعدة للاجئين السوريين في بيروت: "كنت واحداً من بين المئات من الأطفال الذين أثر فيهم الأب فرانس. هرب من المجتمع المسيحي التقليدي. لقد كان فيه سحر غريب، كان دائماً حيوياً وعاقد العزم، ولم يعرف تفاؤله حدوداً. كما أنه أحب المسلمين والمسيحيين على حدٍ سواء". يتذكر فادي المقابلة التي أجراها مع الأب فراس عام 2011: "لقد أمل أن تتخلى الكنيسة الكاثوليكية عن الفكرة الاستعمارية التي تجعل منها مؤسسة عظة تهدف إلى تعليم السكان المحليين. وأمل أن يرى الكنيسة تتبنى مبادئ الحياة المشتركة والتضامن مع الناس".
لا أستطيع إلا أن أتساءل عن الطرف الذي قتله. كان الأب فرانس محبوباً، لكنه أيضاً مكروه من "الشبيحة" لمساعدته أبناء الطائفة السنية، ومن المتشددين أيضاً. أمّا بالنسبة لرعيته، فتجد القليل من الراحة في كونه مات على المبادئ التي كان ينادي بها.
ريما مروش
↧