لم يكن ممكناً للقوات التركية دخول الأراضي السورية، ولو بغاية دعم الجيش السوري الحر في السيطرة على جرابلس، من دون ضوء أخضر أميركي ـ روسي. يُفترض أيضاً أن الإيرانيين كانوا على علمٍ بذلك، على خلفية زيارة وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، إلى طهران الأسبوع الماضي، ولقائه نظيره الإيراني، محمد جواد ظريف. بالطبع، من المفترض أيضاً وأيضاً أن يكون الإسرائيليون على علمٍ بذلك، كعنصر ميداني، يقوم بعمليات عسكرية محدّدة في سورية، من اغتيال قادة من حزب الله، وقصف قوافل السلاح التابعة للحزب، فضلاً عن قصف مناطق في الجولان السوري.
عليه، قد يكون الجميع على علمٍ بالعملية التركية قبل حدوثها، إلا النظام السوري، بما يؤشر إلى أن دوره سيكون هامشياً، في المرحلة المقبلة، خصوصاً في أية مفاوضاتٍ أو مشاورات. الدلالات كثيرة. الروس بأنفسهم لا يتعاملون مع النظام، ورئيسه بشار الأسد، على أنه "عنصر فاعل" في سورية، بل على قاعدة "تقاطع المصالح" التي صودف وجود الأسد فيها فترة طويلة، قبل انبلاج فجر التحالفات الجديد في الأسابيع الأخيرة، تحديداً، بعد الانقلاب الفاشل في تركيا في 15 يوليو/ تموز الماضي.
في العام الماضي، رفع الأتراك من نبرتهم في شأن "المنطقة الآمنة" على الحدود السورية ـ التركية. جوبهوا باعتراضاتٍ روسية كبيرة، أدّت لاحقاً إلى تعليق المشاورات بشأن هذه المنطقة. كان واضحاً أن إنشاء مثل هذه المنطقة من عدمها أمر دولي، أكثر منه إقليميّاً. وهو ما يحصل حالياً، فتحرير جرابلس شرّع الأبواب أمام ترسيخ مثل هذه المنطقة ميدانياً. بالتالي، فإن السؤال لم يعد عن وجودية "المنطقة الآمنة" بحدّ ذاتها، بل تجاوزها إلى السؤال حول مساحتها الجغرافية، وأهدافها المستقبلية.
وقبل اتضاح حيثيات المنطقة العتيدة، يبدو الدور الروسي "مفاجئاً" لكنه فعلياً غير مفاجئ. اعتاد الكرملين التصرّف ببراغماتية أشبه بسياسة توحي بـ"تخلٍّ" أو أقلّه "نصف تخلٍّ"، منذ وصول فلاديمير بوتين إلى السلطة. يعمل بوتين وفق قاعدةٍ قائمةٍ على ثلاثة اعتبارات. الأول، يتعلق بالتعامل مع القوى الكبرى عالمياً، من موقع "الفتى المشاكس"، لا "الدولة المنسجمة" في تركيبة قوانين هذه الدول. الثاني، يتمحور في إقناع الدول الضعيفة بأن "الروسي هو حليفها الأوثق"، وحين يأمن جانبها وركونها إليه، يعمد إلى استغلالها، على قاعدة "ألا بديل عنه"، بما يشبه فعل السخرة السياسية. أما الاعتبار الثالث، فمتعلق بالثوابت غير المتغيرة، أي المرتبطة بـ"القومية الروسية"، وإفرازاتها في دول الجوار من البلطيق إلى أواسط آسيا.
عليه، لن يتردّد الروسي في تغيير مساره التكتيكي سورياً، بما يحفظ مصالحه. وهو أمر نوقش عشرات المرات، بين موسكو وعواصم إقليمية ودولية. يريد بوتين كسب كل دول الشرق الأوسط إلى جانبه، لا سورية فقط، ووفقاً لشروطه، تحديداً لجهة تأمين الأسواق للسلاح والغاز الروسيين. وهو ما يظهر في سير عمله دبلوماسياً واقتصادياً.
أما بالنسبة للولايات المتحدة التي بدت، لوهلة، وكأنها تدعم معظم الأطراف في معركة جرابلس، فإنها ليست في وارد الإقدام على فعلٍ ما، قبل ثلاثة أشهر من انتهاء عهد الرئيس باراك أوباما، لكنها قادرة على إطالة المعركة في الشمال السوري، حتى بدء عهد الرئيس/ة المقبل/ة. من المؤكد أن أموراً كثيرة ستتغير في سورية في الفترة المقبلة، إذ سبق لرئيس الوزراء التركي، بنعلي يلدرم، أن أكد، بصورة غير مباشرة، على احتمال حدوث تطوراتٍ كبيرة في الملف السوري في الأشهر الستة المقبلة. وإذا كان الشهر الأول منها يبدو مفاجئاً، فإن جميع الاحتمالات مفتوحة، مع ثابت وحيد: بدء انتهاء تأثير النظام السوري كلياً على امتداد المساحة الجغرافية السورية، واستطراداً على بعض دول الجوار.
المصدر: العربي الجديد - بيار عقيقي
↧