عندما يتسلم الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب زمام الحكم في وقت لاحق من هذا الشهر، ستشهد أميركا حالة انقسام لم تعرفها منذ سنوات. في الماضي لم يحدث أن حَظِي تنصيب رئيس أميركي بكثير من الإشادة من أقدم أعداء الولايات المتحدة، روسيا، وبكثير من الغم الشديد من أقرب حلفائها.
لم يحدث من قبل انتخاب رئيس أميركي بمثل هذا العجز في الأصوات الشعبية: أكثر من 2.8 مليون. إن زعيم الحكومة -التي من المفترض أن تكون للشعب، من الشعب، ولأجله- انتخبته أقلية واضحة من هذا الشعب. ومن المناسب أن ينسجم الكرملين فقط مع فكرة الديمقراطية هذه.
وبطبيعة الحال، يعرف المراقبون المتعلمون أن الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة لا يقررها التصويت الشعبي، ولكن يقررها المجمع الانتخابي. فقد أنشأ الآباء المؤسسون هذا النظام كحل وسط بين التصويت الشعبي والتصويت من قبل الكونغرس، وذلك لموازنة نفوذ كل ولاية.
يعتقد ألكسندر هاملتون أن المجمع الانتخابي من شأنه منع انتخاب المرشحين الشعبيين غير المؤهلين أصحاب "الدسائس والمواهب الضعيفة". وهذا في الواقع يؤكد وجهة نظري بأن الرجال الذين وضعوا دستور الولايات المتحدة كان لديهم حس بالسخرية.
وليكون صادقا مع نفسه، يتفاخر ترمب بأنه فاز بأغلبية ساحقة. فقد فاز بالولايات الديمقراطية الحاسمة -وهي ميشيغان وويسكونسن وبنسلفانيا- بـ107.000 أصوات، أي بنسبة 0.09٪ من مجموع الأصوات المدلى بها في جميع أنحاء البلاد.
ولم تكن هذه الانتخابات انتصارا ساحقا، بل كانت عبارة عن قليل من الرمال في محرك الديمقراطية الأميركية الكبير، عن طريق الوعد بجعل روسيا -آسف، أميركا- "عظيمة مرة أخرى".
وعلى ما يبدو، فإن جعل أميركا عظيمة مرة أخرى يعني (بالنسبة لترمب) التعهد بإزالة المحتالين النخبويين من الحكومة، ومن ثم ملء مجلس الوزراء الخاص بك بالأثرياء ذوي المليارات وخريجي غولدمان ساكس. وهذا يعني دفع النمو الاقتصادي، ومن ثم فرض تعرفة جمركية تبلغ 35٪ على الواردات.
ويعني هذا -من بين أمور أخرى- الوعد باستعادة وظائف عمال الصلب والمناجم، وإنهاء تدليل الأقليات، وترحيل جميع المهاجرين غير الشرعيين، وخفض الضرائب، وزيادة الإنفاق على البنية التحتية بمئات المليارات من الدولارات، وإلغاء برنامج الرعاية الذي وضعه الرئيس باراك أوباما، والقضاء على أو إعادة التفاوض على الدين الوطني، وتعذيب المناضلين واستهداف أسرهم.
في العام المقبل، سيفضل الجميع في واشنطن التعامل بشكل جيد مع ترمب، خشية أن يتعرضوا لتغريدات سيئة على تويتر، ورسائل كراهية، وهجمات على الإنترنت. والويل لمن يشير إلى أن تدخل روسيا الخبيث في الانتخابات له علاقة بحماسة ترمب الشخصية تجاه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
ناهيك عن أن وكالة المخابرات المركزية (سي آي أيه) ومكتب التحقيقات الفدرالي قد خلصا إلى أن روسيا اخترقت حسابات كل من الديمقراطيين والجمهوريين، لكنها سربت فقط رسائل البريد الإلكتروني التابع للديمقراطيين، أو أن أوباما قد أجاب الآن بتقديم تقرير مفصل عن دور وكالات الاستخبارات الروسية واتخاذ عقوبات ضدها.
ستستمر التحقيقات في هذه الأمور الخطيرة بعد تنصيب ترمب، ويمكنها أن تتضاعف بعد تسرب أخبارها من واشنطن. قد يكون بعضها كاذبا أو مجرد تكهنات، لكن البعض الآخر قد يكون صحيحا، وربما مرعبا.
وفي كلتا الحالتين، فإنها ستكون سبب الخلاف، وسبب إضعاف الولايات المتحدة ورئيسها. ومع ذلك، فإن ترمب سيصمد في وجه العاصفة، إلا إذا أكد المحققون التواطؤ بين حملته وأي كيان روسي متصل ببوتين. ويمكن للمرء أن يفترض فقط ما هي المكافأة مقابل إيجاد هذا الرابط الغادر.
كل هذا سيُحدث فوضى كبيرة، لكن ربما ينبغي أن نكون ممتنين لأن الحذاء ليس في القدم الأخرى. تخيلوا معي أن ترمب هو من فاز بالتصويت الشعبي بفارق كبير، لكنه تعرض لهزيمة صغيرة في المجمع الانتخابي.
تخيلوا لو حدث هذا جنبا إلى جنب مع تقارير وكالة المخابرات المركزية التي تقول بأن وكالات الاستخبارات الروسية قد اخترقت وسربت رسائل البريد الإلكتروني لحملة ترمب لتلحق به الأذى. وتصور أن هيلاري كلينتون أخذت تملأ حكومتها بالأثرياء أصحاب المليارات.
ما الذي كان ترمب سيفعله؟ من الأرجح أنه سيجمع أنصاره الذين كانوا يعتقدون أن كلينتون وزوجها هما السفاحان الفاسدان. وفي الواقع، لو انقلبت الأوضاع لكان هناك سبب للقلق على مستقبل الولايات المتحدة، البلد الذي أُحِبه وطالما احترمته.
ما الذي يمكن أن نفعله في الأيام المظلمة القادمة؟ أولا، يجب ألا نسمح للأكاذيب بإخفاء الحقيقة في الخطاب والنقاش العام. فإذا كانت وسائل الإعلام الاجتماعية مليئة بالأكاذيب، فإنه تجب مواجهتها بالحقائق. وإذا كان الزملاء يعيدون نشر عناوين أخبار وهمية أو جاهلة، وادعاءات خاطئة، فيجب الاعتراض عليها.
وإذا كانت البرامج الإخبارية في التلفزيون أو الراديو تشوه الحقيقة، فاتصلوا هاتفيا بمسؤوليها وبمديري الإعلانات وعبروا لهم عن رأيكم. واطلبوا من القساوسة وقادة المجتمع الآخرين أن يشمروا عن سواعدهم ويفعلوا نفس الشيء.
كمواطنين، على كلٍّ منا النضال من أجل الحقيقة وضد التحامل والاحتيال، لأنه إذا خسرنا الحقيقة فسنخسر الديمقراطية في مرحلة لاحقة. وكما قال القديس أوغستين: "الحقيقة مثل الأسد، ليس عليك الدفاع عنه. دعه طليقا، وهو سيدافع عن نفسه". في سنة 2017، يجب أن نفتح القفص عن الأسد.
المصدر: الجزيرة نت