أكرم البني: الحياة / souriyati
أمر محرج أن توافق المعارضة السياسية السورية على المشاركة في مفاوضات آستانة، بعد انقلاب توازنات القوى في غير مصلحتها بفعل التدخل العسكري الروسي، وهي التي لم تكل أو تمل الحديث عن دور روسيا المناهض للثورة، وعن أن هدف قيادة الكرملين من دعواتها الى مؤتمرات ومفاوضات، بدءاً من مؤتمر موسكو إلى مؤتمر آستانة وبينهما اجتماعات جنيف وفيينا، ليس إيجاد حل حقيقي يهدئ النفوس ويرضي مطامح الناس، بل ربح مزيد من الوقت لتمكين السلطة وإضعاف المعارضة وخلق مزيد من الخلافات والانقسامات بين صفوفها، بما في ذلك إقصاء الهيئة العليا للتفاوض أو تهميشها كمقدمة لتأهيل طرف مطيع يشارك في تكريس حل سياسي جديد لا يقوم على المرجعيتين القانونية والأممية، لا سيما بيان جنيف 1 والقرار الدولي 2254.
وأمر محرج أيضاً، أن تتخذ المعارضة السياسية موقفاً مناهضاً لخطة موسكو تسوية الصراع القائم وترفض المشاركة في مؤتمر آستانة، لأن ذلك يضعها في مواجهة مع الفصائل العسكرية الموقعة على اتفاق أنقرة، ومع ميل غالبية السوريين نحو التهدئة والخلاص من استمرار العنف والتدمير وما يخلفه من معاناة وآلام، فكيف الحال وهي تدرك أن رفضها لن يقدم أو يؤخر ما دامت لا تمتلك وزناً فاعلاً على الأرض، وما دامت «ورقة الشرعية» التي أنعم بها المجتمع الدولي عليها قد تهتكت ولم تعد تجدي في تمكينها لعب دور مختلف؟ وكيف الحال وقد طاولتها انتقادات حادة وصل بعضها إلى اتهامها ونزع الثقة بها وتحميلها المسؤولية الرئيسة عما وصلت إليه أحوالنا بما في ذلك النتائج المريرة لمعركة حلب.
وكم هو محرج للمعارضة السورية حين تتزاحم بعض قياداتها على استجداء تركيا وروسيا الضامنتين اتفاق أنقرة والعملية التفاوضية، كي تحجز مكاناً لها في آستانة؟ أو عندما تقف ذليلة تراقب، بعين الحسرة، التداول بين الراعيين على اختيار رموز من صفوفها تناسب جدول أعمال المؤتمر، مكتفية بإبداء تحفظ خجول حول ما رشح عن نية موسكو دعوة ست شخصيات اختارتهم للمشاركة في المحادثات وفي المرحلة الانتقالية العتيدة، من خارج التشكيلات الرئيسة للمعارضة السياسية والهيئة العليا للتفاوض؟ وما يزيد الحرج حرجاً، أن يكون للجماعات المسلحة الموقعة على اتفاق أنقرة، دور رديف في هذا الاختيار، وفي تزكية رموز معارضة، أقرب إلى أجندتها، كي تمثلها سياسياً، والأنكى أن لهذه الجماعات لوناً أيديولوجياً وسياسياً واحداً، حتى وإن ألحقت بها بعض فصائل الجيش الحر لإعطاء المشهد بعداً أوسع، ويزيد الطين بلة ما رشح عن استعداد قيادة المعارضة لحضور مؤتمر آستانة ضمن وفد مشترك مع الفصائل العسكرية، من دون أن تنتبه إلى أن هذا الخيار يدشن نهاية دورها كطرف رئيس في المفاوضات وعملية الانتقال السياسي.
وأيضاً، كم يبدو محرجاً أن تضطر المعارضة السورية الى الصمت أحياناً وتعديل مواقفها أحياناً أخرى، كي تنال رضا الأطراف المؤثرة في مستقبل الصراع السوري. فأي معنى لصمتها المريب عن تراجع مواقف الجار التركي وقد خيّب أملها وخذلها بانتقاله إلى التفاهم مع روسيا لمحاصرة الخطر الكردي وتحصيل بعض النفوذ الإقليمي، ضارباً عرض الحائط بادعاءاته ووعوده الداعمة لها؟ وكيف يفسر استسهال تغيير خطابها تجاه التدخل الروسي من اتهامه باحتلال البلاد، إلى الاعتراف بدوره كطرف رئيس في الحل السياسي، أو تراجعها عن خطوط حمراء حول تغيير النظام ورموزه، كانت تعتبرها اشتراطات لا تنازل عنها للمشاركة في المفاوضات؟ ثم كيف يفهم اندفاعها لرهان مبالغ فيه، على خلافات بين روسيا وإيران حول مسار التسوية السورية، والبناء على اعتراضات طهران المعلنة ضد تفرد أنقرة وموسكو في ترتيبات مؤتمر آستانة، وعلى الخروقات المتكررة لحلفائها في وادي بردى؟
وما يزيد الموقف حرجاً، أن المعارضة صاحبة الكليات والإطلاقيات، ومن كانت تسخر من أية خصومة أو خلافات في الحلف الداعم للنظام وتعتبرها مجرد لعبة أو مسرحية لتبادل الأدوار، باتت هي ذاتها من يتحدث اليوم في التفاصيل والجزئيات وترى بعين، تحسبها بصيرة، دقائق الأمور والمسافات الصغيرة لتفاوت المصالح والسياسات بين قوى هذا الحلف!
ويزيد الحرج حرجاً عندما تعجز المعارضة عن تحقيق توافق مرضٍ على موقف واحد من مؤتمر آستانة، أياً يكن هذا الموقف، نتيجة اختلاف الاجتهادات وتباين الإملاءات التي يطلبها هذا الطرف الداعم أو ذاك، أو عندما تفتك ببعض قياداتها الحسابات الأنانية والضيقة، وتندفع إلى التطرف والمزايدة على الآخرين رافعة سقف الاتهامات كي تميز نفسها في المشهد السياسي، بما في ذلك استسهال المطالبة بتسعير الصراع رداً على مؤتمر آستانة ورفضاً لما تعتبره هزيمة واستسلاماً، مستهترة بما يخلفه استمرار العنف من شدة ومعاناة لقطاعات شعبية واسعة لم تعد قادرة على تحمل المزيد.
هل يكمن السبب وراء ما تعانيه المعارضة السياسية من إحراج وتردد، في حالة الحصار المطبقة على مشروع التغيير السوري وما تعرض له من غدر وأضرار وتشوهات؟ أم فشلها في الالتحام بالثورة ونيل ثقة أبنائها نتيجة أمراضها الذاتية وتغلغل النزعات والمصالح الأنانية في صفوفها؟ أم الأمر ناجم عن رهاناتها الخائبة وتراكم أخطاء قصر النظر في قراءتها الأحداث، وعجزها عن تفعيل دورها السياسي وتحمل المسؤولية لتصويب ما يكتنف مسارها من مثالب وعثرات؟!.
والحال، باتت المعارضة السورية في وضع لا تحسد عليه، وإذ يرى البعض أن دورها قد استهلك وانتهى وأن عليها الاستقالة كي لا تغدو عنواناً للخيبة والفشل والإحباط، يرى آخرون أن قدرها اليوم هو القبض على جمرات الثورة وحمايتها من العبث والتشويه والتغييب، وتسخير إنتاجها النقدي، سياسياً وثقافياً، لاستخلاص الدروس والعبر مما جرى، ما يمكّن المؤمنين بالخيار الديموقراطي خوض غمار الخلاص من محنة الاستبداد، بأقل الأخطاء والآلام.
↧