إلى بسام كوسا مع التحية: أمك تغتصب أمام عينك وليست مريضة!..
على مدار تاريخه، شكل بسام كوسا حالة فنية حقيقية ومتفردة في الدراما السورية سواء في المسرح أو التلفزيون أو السينما، وكان من القلائل الذين امتلكوا رؤية عميقة وموقفاً نقدياً جاداً وهماً إنسانياً عالياً، وشغفاً بالبحث الدائم عن الجديد، واستطاع أن ينفرد -دون الكثيرين- بقدرته على فرض شروطه وعدم الخضوع لمنطق السوق.
وعلى مستوى التعامل الإنساني والاجتماعي لم يؤخذ على الرجل خطأ كبير يمكن أن يسجل في أرشيفه أو يضعه موضع الشك، بيد أن كل ذلك لم يمنع مفاجأة من العيار الثقيل أن تتفجر عند أول حاجز نصبه النظام معلناً حربه على شعبه..
كل من يعرف بسام كوسا عن قرب، يكاد يجزم بأنه كان الفنان الوحيد الذي شكل صدمة حقيقية للمواطن السوري باصطفافه مع النظام ضد الشعب وثورته، النسبة العظمى من الفنانين الذين صفقوا وشبحوا وشجعوا على ذبح الثورة، كانت مواقفهم معروفة سلفاً ومؤكدة حتى قبل أن يعلنوها لأنهم كبروا وترعرعوا في أحضان النظام، والنسبة المتبقية كانت مواقفهم متوقعة أو على الأقل غير صادمة..
أما بسام كوسا بالذات، فلم يكن يراود أحدنا الشك في أنه سيقف مع الحق، ولكنه صفعنا جميعاً حينما ارتضى أن يكون شاهد زور وعلى مستوى رفيع من الإقناع وقوة الحجة..
لن نشتم بسام كوسا هنا ولن نخونه كما فعل، وسوف نجري حواراً معه نزولاً عند رغبته وذلك من خلال مناقشة هادئة لأفكاره التي طرحها في الحوار الأخير الذي أدلى به لقناة سورية دراما..
دخول الاستديو ليس كالخروج منه
يعرف كل سوري أن الدخول إلى أي استديو من الاستديوهات التابعة للنظام، يعني بداية الموافقة على الرواية الكاذبة للعصابة، على الأقل في خطوطها العريضة، الخطوط الحمر التي لا يُسمح لأحد أن يعيش في سورية إن تجاوزها حتى وهو يحدث نفسه، فكيف إن دخل قناة تلفزيونية، فخلف الكاميرا وفي غرف المونتاج وفي الردهات، ينتشر المخبرون، ينتشر ضباط الأمن المدججون بالقتل، أما المذيع والمخرج والمونتير ومهندس الصوت، فكلهم جنود يقاتلون من أجل تلك الرواية، ولن يخرج الضيف إلاّ إلى القبر أو إلى المعتقل في حال تجاوزه الخط المرسوم حتى وإن بهفوة غير مقصودة، وبالتالي فإن مجرد الموافقة على إجراء حوار مع تلك الفروع الأمنية المسماة زوراً بالقنوات الإعلامية يعد تواطؤاً لصالح القاتل..
لا يستطيع بسام كوسا أن يدعي أنه يدلي برأي محايد، فالحياد ممنوع في سورية منذ سنوات طويلة، وبشكل خاص بعد قيام الثورة، ولو أن مكانة الفنان تحميه من بطش النظام لما غادر الكثير من النجوم سورية الأسد، ولما تعرض الكثيرون للقتل والاعتقال..
وهم الجرأة..
اللعبة الخطرة التي انطلت على بسام كوسا، أو التي قبل أن يكون طرفاً فيها فحوّلته إلى أداة تخدم خط العصابة، تتجلى في مجموعة من المعطيات، كان أهمها توظيف مصداقية الرجل ورصيده لدى الجمهور، فضلاً عن قدرته على الإقناع من خلال حديثه المنطقي والمترابط والمنظم، لصالح الرواية الكاذبة، غير أن الأشد خطراً من ذلك كله هو مساحة الجرأة الممنوحة له لإدانة الكثير من الممارسات وعلى رأسها “الفساد”، بما فيه الفساد الذي تمارسه إدارات عليا..
ولكن من المعول عليه محاربة هذا الفساد؟ إنها الجهات المختصة.. إنها الدولة!
لم يعد النظام اليوم يهتم بمن يمتدحه كثيراً وبشكل فج ومباشر، فذلك بات نفاقاً مفضوحاً، ليس لدى النظام مانع في ممارسته، ولكن الأفضل بالنسبة له اليوم هو إدانة الفساد والاعتراف بحجمه واستشرائه حتى وإن كان توصيفاً دقيقاً وصريحاً شريطة أن يكون التعويل في محاربة هذا الفساد على الدولة نفسها وعلى مؤسساتها..
هناك دولة في سورية إذن، وهناك مؤسسات قادرة على محاسبة الفاسد، والأهم من ذلك هناك رئيس لن يسكت عن الفاسدين فيما لو وصلته ممارساتهم.. حسناً.. العصابة وصلها حقها ولا تريد أكثر من ذلك..
فضلاً عن ذلك، فإن تزييف الواقع هنا يأتي عن طريق الإيهام بحرية الرأي، فعبر إعلام العصابة يتم الحديث عن فسادها.. أليست تلك الجرأة المتوهمة دليلاً قاطعاً على الديمقراطية غير المسبوقة التي يمنحها النظام للشعب في انتقاده؟ وهل غابت عن بسام كوسا تلك النقطة الجوهرية التي يتم من خلالها استثماره لتعزيز تلك الفكرة، ذلك الوهم؟!
القاتل يحاسب الفاسد!
ليس بسام كوسا من السذاجة ليصدق أن القاتل سيحاسب الفاسد، هذا إذا جاز الفصل بين القاتل والفاسد، كل حديث بسام كوسا يدل على معرفته العميقة بالسياسة الدولية وليس فقط على المستوى المحلي، فهل انطلى عليه أن كل ما حدث في سورية كان بسبب دفاع اللص عن سرقاته وانتقاله من الفساد إلى الإجرام، تلك الحقيقة التي يعرفها الأطفال الصغار في سورية، فمن أين للمجرم أن يحارب نفسه، وعلى من يعول بسام كوسا بدقة؟
الأم المريضة..
لماذا لم يخرج كوسا من سورية؟ لا يريد الرجل أن يبيع وطنيات، حسناً.. ما هي البضاعة البديلة؟ عسل مسموم سيشربه كل من لم يتعمق بالوصفة الجديدة، هل يترك الإنسان أمه إن مرضت؟ سؤال في غاية المنطقية ويحرج كل من ترك سورية.. حقاً إنه نوع من الندالة غير المسبوقة أن يترك الإنسان أمه المريضة، ولكن التشبيه هنا خانه التوفيق، خانه المنطق، بالرغم من براعة كوسا في صياغة حججه وذرائعه، فسورية لم تمرض كما شُبِّه لبسام، بل تم اغتصابها علناً على يد حفنة من المجرمين هم أنفسهم من يطلب بسام إنقاذها منهم، أمك يا بسام تم اغتصابها على مرأى منك، ورأيت المجرمين بالعين المجردة فقمت بتبرئتهم وتطلب منهم محاسبة الفاعل، في الوقت الذي لم يتوقف المجرم عن اغتصاب الأمهات لستّ سنوات متتابعة..
القتل يبث على الهواء مباشرة، والتدمير الممنهج للبلد الذي رفضت الخروج منه، لا يختلف عليه اثنان.. ولكن أن تبرئ الفاعل وتطلب منه محاسبة أتباعه، أفلا تراها تماماً كرد النظام على الضربات الإسرائيلية بمحاسبة السوريين وتصفية وإبادة من تبقى منهم؟
من يقبض ممن؟
تؤمن بحق الرأي لدى الآخرين، وتكره الشتيمة والتخوين، ذلك من شيمك التي عهدناها فيك، ولكن أن تربط انشقاق من انشق بأنه قبض من الدول المعادية، فأنت تمارس ذات السلوك الذي تدينه، مع فارق كبير هو التجني على أهلك وأصدقائك الذين تعرفهم جيداً وتعرف أنهم ما خرجوا إلاّ ليعودوا، حيث استعصت عليهم نصرة إخوتهم السوريين من الداخل، وعزّت عليهم فكرة الموت المجاني أو الخلود في المعتقلات، أو الموت تحت التعذيب..
كثيرون من زملائك في المهنة، فقدوا عملهم منذ ست سنوات، لم يقفوا أمام كاميرا أو على خشبة مسرح، ومنهم من تحول للعمل في مهن شاقة، ومنهم من مات مغترباً فقيراً، ومنهم من لا يزال قابعاً في زنازين رئيسك الذي تعترف به وتعول عليه محاربة الفساد.. ومع ذلك ها أنت تتهمهم بقبض الأموال من جهات خارجية، فيما تنعم أنت بأدوار في مسلسلات تعترف بلسانك بأنها تافهة، وبالتأكيد مصادر أموالها خارجية (إيران بالحد الأدنى) حيث لا تستطيع مؤسسات دولتك تغطية تكلفة البراميل والمسلسلات في وقت واحد..
ليس شرطاً أن تكون في الخارج لتقبض من الخارج، حيث من هم في الداخل يفعلون ذلك وأنت أدرى من غيرك بمصادر الأموال التي ينفقها النظام فقط ليحافظ على كرسي من اغتصب أمك وأمهاتنا معا..
أما أن تحمّل سبب ما حدث وسبب الجوع الذي يعاني منه السوريون اليوم لمن أراد الديمقراطية وليس لمن توعد علانية بحرق البلد، فذلك ما لم نعهده في استنتاجاتك التي طالما اقتنعنا بها لشدة ترابطها وتوازنها!!
اخرج يا بسام
هل عرفت اليوم لماذا خرجنا يا بسام؟ لكيلا نضطر يوماً للجلوس مكانك في الاستديو وتبرئة مغتصب أمهاتنا، أو اتهام أمهاتنا باغتصاب ذواتهن والتقرب إلى البلطجي علّه ينقذنا من عارنا الذي تسبب فيه..
من حقك البقاء في سورية وحماية نفسك بتبني رواية النظام بين الزملاء الذين تحول معظمهم إلى مخبرين.. سنتفهّم ذلك، ولكن، أن تعترف بشرعية الأسد ومؤسسات “دولته” أمام ملايين السوريين الذين يقضون بشتى أنواع الموت القادم من القصر الجمهوري الذي تعول عليه إصلاح المجتمع، فتلك والله قسمة ضيزى..
ولك أن تتخيل، أن يتلقف ملايين العرب خطابك ويتبنوه لما تحظاه لديهم من حب واحترام، فتوفر على القاتل جهداً كبيراً ومالاً وفيراً ينفقه منذ سنوات ليشتري شهادات الزور ويتحول من قاتل رخيص إلى بطل قومي..
نحن اليوم في منعطف تاريخي، في لحظة يتم أرشفتها بدقة، وها نحن نتعاطف مع ألمك الواضح، ومع انكسارك الذي لم نرك عليه يوماً، مع حالة الجنون والبحث عن إيجاد مخرج للورطة التي وضعك النظام فيها فأعاد صياغتك على مقاسه، فضاق مقاسك عليك..
اخرج يا بسام.. البهدلة في الخارج ذل ومهانة، تماماً كما قلت في حوارك، ولكن “البهدلة” في الداخل يرافقها احتياج عميق للتزوير والكذب، وسورية الأسد ليس فيها متسع لكلمة حق عند سلطان جائر..
بقلم: د. عبد القادر المنلا
↧