إذا ما تجاوزت السلطة حدود القانون ما على الشعب سوى الثورة
كثيرة هي الأصوات التي عابت على الشعوب العربية، ما قامت به من انتفاضات في وجه جلاديها، بحجة أولا أن هذه الشعوب لم تنضج بعد كي تعي معنى الحرية، وثانيا أن هذه الشعوب تقوم بتنفيذ مؤامرة خارجية، لذلك أُطلقت عليها النعوت المختلفة، من جرذان وجراثيم وخونة وإرهابيين وغيرها.
فات هؤلاء أن السلطة الحاكمة في أية دولة، إنما تستمد شرعيتها من مصدرين أساسيين، الشعب الذي تنال رضائه، والدستور الذي يرسم حدود صلاحياتها ومهام عملها، وأن هذه السلطة لا تفرض هيبتها لتحافظ على النظام العام، إلا من خلال التطبيق الحازم لنصوص القانون، على جميع المواطنين دون استثناء، بحيث ينصاع إليها كل من الحاكم والمحكوم على حد سواء.
ولكي تحافظ السلطة على شرعيتها ومبدأ سيادة الدولة، كان من الطبيعي أن تكون جميع ما تقوم به من أفعال في حدود القانون، المعبر أصلا عن الإرادة العامة في الأمة، وطالما بقيت تصرفاتها على هذا النحو، فإنها ستبقى تتمتع بالشرعية.
لكن السلطة عندما تقوم بأفعال تتعارض مع النصوص الدستورية؟ كأن تعمل على الانتقاص من حقوق الأفراد؟ فتميز بين مواطنيها على أساس الانتماء الطائفي أو الولاء الحزبي، أو أن تقوم بكم الأفواه وقمع الحريات الفردية، أو اللجوء للاعتقال السياسي، أو فصل موظف عام من عمله لمجرد رأي مخالف، أو السكوت عن فساد مسئول أو قريب أو ذو محسوبية، خلافا لتلك النصوص، فإنها تفقد شرعيتها، مما يسمح للأفراد بمعارضتها ومقاومتها وفقا لعدد كبير من الفلاسفة.
وعِبَر التاريخ تبقى شاهدة على أنه ليس هناك من ثورة إلا وقامت بمواجهة الاستبداد و زيادة المظالم، التي تنتقص من سعادة الإنسان وحريته وكرامته، فإذا ما اتجهت نية السلطة، مهما كان شكلها للنيل من هذه الحقـوق أو الانتقاص منها ، فإن للشعب عندها الحق في أن يغيرها أو أن يسقطها، ليقيم مكانها حكومة جديدة تستند إلى هذه المبادئ، على نحو يكفل للشعب سلامته وسعادته، وفقا لما جاء في مقدمة دستور الاستقلال للولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما أكد عليه أيضا الرئيس الأمريكي "لنكولن" عام 1861 بقوله: "هذه البلاد ملك للشعب الذي يقطنها، وكلما ضاق هذا الشعب بأخطاء الحكومة القائمة أو مساوئها، فله أن يستعمل حقه الدستوري في تعديلها أو حقه الثوري في هدمها".
والواقع فإن لجوء الشعوب لخيار مقاومة السلطات والثورة عليها، عندما تتجاوز حدود القانون، إنما له ما يبرره، لأن الدولة وفقا للفقيه "سيبنوزا" لا تكون الغاية من وجودها فرض سلطتها على الأفراد، بمقدار ما هي صيانة حقوقهم وضمان حرياتهم، باعتبار أن الإنسان هو المحور الأساسي في الدولة، التي لم تقم أصلا إلا من أجل رضائه وتحقيق حريته وإسعاده.
وهذا ما هدفت إليه أم الثورات "الثورة الفرنسية" عندما وضعت حقوق الإنسان فوق كل اعتبار، تكرّس ذلك من خلال الجمعية التأسيسية، التي ذهبت إلى أن الأمة مبدأ كل سيادة وأصل كل سلطة، وأن جميع الناس يولدوا أحرارا متساوين في الحقوق ولا تمييز بينهم، وهم متساوون أمام القانون، وأمام الوظائف العامة، لهم الحق في حرية الرأي والتفكير والاعتقاد، وهو ما أكد عليه أيضا الرئيس الأمريكي الآخر "توماس جيفرسون" في العام 1776 بعباراته المشهورة "إن كلُّ الناس قد ولدوا متساوين، لقد منحهم الله حقوقًا لا يمكن التنازل عنها، ومن هذه الحقوق: الحرية والبحث عن السعادة، لذلك فإن هذه الحكومات قد أُنشِئَت لضمان هذه الحقوق، باعتبارها تستمد سلطاتها العادلة من رضاء المحكومين.
فضلا عن أن أساس طبيعة العلاقة بين الأفراد والدولة هي عبارة عن عقد اجتماعي يتضمن التزامات متبادلة بين الطرفين، بموجبها يتنازل الأفراد عن بعض حقوقهم للدولة بالقدر الذي يسمح بقيام سلطة عامة، وعلى هذه السلطة حماية حقوقهم، مقابل طاعتهم لها، وفي حالة عجز السلطة عن حماية هذه الحقوق، فإنه باستطاعة الشعب فسخ هذا العقد، وفقا "لجون لوك".
وبالتالي فإن الحاكم لا يُعتبر طرفا في هذا العقد، وإنما وكيلا عن الإرادة العامة، التي بموجبها تكون السلطة للقانون، وليس للحاكم، الذي من المفترض أنه يحكم وفقا للإرادة العامة، وليس وفقا لإرادته هو، لذلك فإذا ما استبّد الحاكم بالسلطة أو مسّ حقا من حقوق الأفراد، فإن للشعب الحق في عزله، وفقا "لجاك جان روسو".
وذلك باعتبار أن السلطة العامة إنما خُلِقَتْ للصالح العام، فإذا ما تخلَّت عن هدفها تخلَّى عنها التأييد الشعبي، ومن ثمَّ فليس الأمر مقصورًا على أن يتولَّى الفردُ مقاومةَ السلطان الضالِّ، وإنما الأمر أخطر من ذلك، لأن الهيئة السياسية هي التي تنحل من تلقاء نفسها إذا ما ذهبت السلطة العامة إلى العمل على تحقيق هدف آخر غير صالح الشعب، حين ذاك، ليست الثورة في هذه الحالة ،إلا مجرد عودة إلى الحالة الاجتماعية السابقة على قيام السلطة العامة، بحسب ما ذهب إليه "فرانسوا سواريز" في العام 1613 بكتابه "الدفاع عن العقيدة".(*)
بدوره يقول القديس "توما الأكويني" بمنتصف القرن الثالث عشر: "أنه في حالة وقوع الجور من السلطة نتيجة لتجاوز الأمير حقوقَه، يسقط عن رعاياه واجبُ الطاعة بمقاومة سلبية، لا تصل إلى حدِّ الثورة عليه؛ أما إذا كان الجور متعلقًا بالقوانين الإلهية أو مجافيًا لها، فإن المقاومة الإيجابية تصير مشروعة، بل لا يمنع من الثورة التي تهدف إلى إكراه الحكومة على العدول عن سلوكها أو إسقاطها، وبالتالي فإن الشعب الذي يقوم بهذا الواجب، يكون قد قام بعمل عادل ومشروع، لأن الحكومة المستبدة الطاغية جائرة لأنها لا تعمل للصالح العام، وإنما لصالح الحاكم وحده، ولأن الصالح العام لا تدعمه العدالة وحدها، وإنما يدعمها النظام كذلك.(*)
وبمثل هذا يؤكد الفقيه البروتستنتي "بيريه غرييه" في رسائله الدينية الصادرة في العام 1689 على أن سلامة الشعب وصيانته هما هدف الميثاق المبرَم بينه وبين الأمير ودستور الجماعة، ومن ثمَّ فإن الجميع مكلَّف بطاعة السلطان فيما يحقق هذا الهدف، وفي حدود الدستور، فإذا هو ما تعدَّى هذه الحدود، فلا طاعة له على أحد، وجازت مقاومتُه، إذ أن الأوامر التي تهدف إلى إسعاد الشعب وحدها تستحق الطاعة، وأما ما عداها فالثورة عليها مشروعة، لأن الأمير لا يملك الخروج على القوانين الطبيعية والإلهية.(*)
بينما يذهب العميد "دوغيه" في كتابه "أصول القانون الدستوري" إلى أن حق الثورة ما هو إلا نتيجة منطقية لخضوع الحكام للقانون، وإن كلَّ إجراء يتَّخذه الحاكم مخالفٍ للقانون يخوِّل المحكومين سلطة قَلْبِ الحكومة بالإكراه؛ وهم، إذ يحاولون ذلك، يهدفون إلى إعادة سيادة القانون وسموِّه.(*)
الواقع لقد سبق للثورتين الفرنسية والأمريكية أن وضعتا عددا من المبادئ القانونية الهامة، باتت نبراسا تستلهم منها شعوب العالم مهمة تغيير حكوماتها المستبدة، وذلك عندما تضع نفسها وحزبها ومصالحها فوق الشعب والقانون، فتفشل في خدمة الشعب، وتعجز عن الحفاظ على وحدة الأوطان.
والمفارقة العجيبة هي أنه في جميع دول العالم هناك معارضة سياسية حقيقية، ورقابة برلمانية ودستورية فعّالة على تنفيذ القوانين، إن تجاوزت السلطة حدودها، كان على تلك المعارضة والرقابة إيقافها عند حدها، بل محاسبتها، كي تعود لجادة الصواب.
والسؤال الجوهري الذي يمكن أن يطرح نفسه باستمرار، هو ما العمل إذا كانت السلطة الحاكمة تتصرف، دون أية قيود أو حدود، فتركل النصوص الدستورية والقانونية بأرجلها؟ "فالمعارضة السياسية مطاردة أو رهن الاعتقال، والرقابة القضائية معطلة، والمجالس البرلمانية محنطة"، لكن رغم كل ذلك تصفق لها تلك الأصوات من رفاق الحزب الواحد والجماهير المغلوب على أمرها.
في الختام يمكننا القول أن عدم احترام حقوق الأشخاص وحرياتهم في عالمنا العربي، وتجاوز حدود القانون، لا يتحمل وزرها الحاكم العربي لوحده، وإنما ترتبط إلى حد بعيد بمدى إصرار أفراد الشعب ووعي الرأي العام في التمسك بهذه الحقوق، والحرص على حمايتها، والتصدي لكل من يتعرض لها أو ينتهكها بالنواجذ، سواء كان حاكما أم محكوما.
*المرجع: فريد عبد الكريم "حق مقاومة السلطة الجائرة في المسيحية والإسلام" مجلة الفكر، العدد 3، 1983، ص70 - 73
المصدر: أول مرة
↧