تبدو الرواية حائرة تجاه أحد موضوعاتها الأثيرة في تاريخ الكتابة، وهو موضوع الكتابة عن السجن، فقد كتبت مئات الروايات عن السجن، دون أن تحقق أي واحدة منها تغيراً في بنية النوع الأدبي. ويبدو التجديد الفني عصياً على موضوع السجن، وربما كان هو الموضوع الوحيد من بين مشاغل الكتابة الروائية الذي تكون الأولوية فيه للرسالة، أو المحتوى، دون أن يكون من بين مشاغل الروائي تطوير وتجديد النوع الأدبي. وتستمد الروايات التي كُتبت عن السجن أهميتها من اسم الكاتب أحياناً، أو حساسية الموضوع.
ففي الأدب الروسي لم يكتب دوستويفسكي رواية عن تجربته في السجن، بل ما يشبه المذكرات التي سماها: "ذكريات من بيت الأموات". ولا تحسب بين أعماله الروائية اللامعة بالطبع، بينما نالت رواية "أرخبيل الغولاغ" لسولجنتسين شهرة واسعة، واستغلت في الغرب، وفي أميركا، للتشهير بالممارسات القمعية لأجهزة الأمن السوفييتية آنذاك. وليس لرواية سولجنتسين أهمية فنية في تاريخ الرواية، ولهذا فقد اقتصرت الدراسات حولها على الجانب الفكري والدعائي.
وقد يشمل هذا الأمر معظم ما كتب من أدب في موضوع السجن، سواء في الأدب العربي، أو في غيره من الآداب. فعلى الرغم من سعي بعض الروائيين العرب لتطعيم رواياتهم عن تجربة السجن، بالتقنيات الروائية، مثل عبد الرحمن منيف في "شرق المتوسط" أو نبيل سليمان في "السجن" فقد ظلّت تلك الأعمال أسيرة الموضوع، لا التجربة الفنية. وظلّت قراءة الرواية تهدف إلى "معرفة" الحدث، لا الحصول على المتعة الجمالية.
غير أن أشكال التعبير عن السجن نفسه تتباين وتختلف من كاتب لآخر، فهي في "مسحوق الهمس" ليوسف إدريس حرمان من التواصل الإنساني، بحيث يمكن لهمسات غامضة تأتي من الجانب الآخر من جدار الزنزانة أن تبعث الحياة في روح السجين، وفي جسده. وحين يكتشف أنه لا يخاطب امرأة، حيث كان يظن ذلك، وهو يدق على الجدار. يقهقه وهو يتخيل أن الشخص الآخر الذي كان يرد على همساته، قد يكون ظن أنه امرأة أيضاً. وهي لدى عبد الرحمن منيف في "شرق المتوسط" إهدار عنيف للكرامة البشرية مجتمعة.
غير أن اللافت في الأدب العربي أن رواية السجن وليدة وعي جديد مختلف عن الوعي السابق الذي كان يرى في المحتل وحده عدواً خارجياً يهدّد الذات، أي هي وليدة عهود الاستقلال. حيث يصبح العدو هو الداخل الذي يدمّر تلك الذات نفسها. حين بدأت أنظمة الحكم العربية مسيرتها "الاستقلالية" بقمع الداخل، وحجز حريته. وبهذا فقد تكون رواية السجن، هي الأكثر وعياً ومعرفة تجريبية بطبيعة السلطة.
وموضوع السجن، يتضمن مواجهة بين القارئ والمرجع، حيث يكون القارئ حليفاً للروائي، مما يخلق فرقاً بين مثل هذه الرواية، وبين رواية مثل "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ التي لا تزال تواجه جمهوراً معادياً ينتمي إلى جبهة الأعداء، ولا تزال الرواية تُمنع في مصر بسبب تواطؤ السلطة مع جهات متشددة في الواقع، تمارس وظيفة القمع، بخلاف روايات السجن، التي تُمنع من قبل السلطة وحدها.
المصدر: العربي الجديد - ممدوح عزام
↧