حسمت السلطات الألمانية أمرها وبدأت العمل على مناقشة مشروع قانون، يتضمن اتخاذ إجراءات وفرض غرامات للحد من الأخبار والمعلومات الكاذبة على شبكة الإنترنت، قبل أن تشرع الأحزاب بإعلان برامجها الانتخابية، ونسج تحالفاتها المستقبلية للانتخابات الوطنية المقررة في خريف هذا العام. تأتي هذه الخطوة بعد أن توقّع مسؤولون ألمان وعلى رأسهم القيّميون على التحضير للانتخابات، ووفقاً لما أظهرته تقارير الاستخبارات الألمانية، أنه من الممكن أن يكون لوسائل التواصل الاجتماعي تأثير ومحاولات تلاعب بالعملية الانتخابية، على غرار الشكوك التي تدور حول تدخّل في الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة الأميركية.
خوف من هجمات روسية
يقول خبراء في الشؤون الاستراتيجية الأوروبية إن هذا الواقع فرض نفسه بعد أن حذرت تقارير الاستخبارات الألمانية، التي كُلّفت من قبل المستشارية الاتحادية بدراسة الأنشطة الروسية بعد تزايد حملات الدعاية والهجمات السيبرانية، من أن هناك خوفاً جدياً من محاولة تدخّل خارجي، ومنها هجمات إلكترونية روسية للتأثير في نتيجة الانتخابات الوطنية المقبلة وإضعاف التزام أوروبا تجاه الولايات المتحدة. كما ظهر أن روسيا تحاول عمداً شحذ الصراعات الاجتماعية القائمة، وهو ما نبّه منه الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، وتم التباحث مع الدول الأعضاء لمواجهته باستراتيجيات معينة.
ويبدو واضحاً أن الأسابيع المقبلة ستشهد نقاشات داخل الحكومة الألمانية وبين الأحزاب للتوصل إلى قانون يضم قائمة من الغرامات على كل من يستخدم شبكات التواصل لنشر الكراهية والأكاذيب والشتائم والأخبار الملفّقة. كما أن هناك توجّهاً لمطالبة مشغلي تلك الشبكات بتحمل مسؤولياتها، بعد أن ساهم تدفّق المعلومات السريع في وسائل التواصل الاجتماعي، سواء على "تويتر" أو في المجموعات المفتوحة والمغلقة على "فايسبوك"، بتشويه الحقائق، لا سيما من قِبل دعاية اليمين المتطرف ضد السياسيين والشرطة والأجانب واللاجئين من أجل زعزعة الثقة بالدولة.
ويُعتبر هذا الإجراء المتوقع اعتماده، أحد أهم المطالب لدى الأحزاب الألمانية التقليدية. وفي هذا الصدد، قال رئيس كتلة "الاتحاد المسيحي" في البرلمان الألماني فولكر كاودر: "يتعيّن على الشركات المشغّلة لهذه الشبكات التجاوب خلال 24 ساعة مع الشكاوى التي يتم التقدّم بها بهذا الخصوص". ولفت إلى ضرورة أن يكون لدى هذه الشركات مسؤولون مختصون لمعالجة هذا النوع من الشكاوى، مؤكداً أن الغرامات التي يتم الحديث عنها ستكون موجعة بهدف ردع المخالفين. وهو ما أكد عليه أيضاً وزير العدل الألماني هايكو ماس، في حديث لصحيفة "فيلت"، الأحد الماضي، إذ قال إنه "يتم حالياً بناء مركز للتصدي للهجمات الإلكترونية على الشبكة العنكبوتية، والهدف منه تسليح أنفسنا وعلى نحو هادف من خلال وسائل تقنية"، لافتاً إلى أن "تنفيذ الهجمات لم يعد ممكناً من خلال الأحزمة الناسفة فحسب إنما من خلال القراصنة على شبكة الإنترنت"، مضيفاً: "ألمانيا لا تصنع الأوهام، إنما هناك تخوّف جدي من محاولات التأثير الخارجية على الانتخابات البرلمانية العامة الخريف المقبل والتي تشمل عمليات نشر أكاذيب خادعة لتشويه الحملات والتضليل المقصود لصالح أطراف بعينها"، مستنداً في ذلك إلى رأي للأجهزة الألمانية.
وفي هذا الإطار، يقول خبراء في علم التواصل والمعلوماتية إنه ينبغي على الشركات التدخّل، إنما يبقى السؤال عن مدى مسؤولية الشركات عن انتشار الأخبار الوهمية وما هي المعايير التي تسمح لها بالتدخل. وهنا يعتبر هؤلاء أنه يجب اعتماد محررين أو فريق أمني يمكنه ومن خلال تحقيقات الشرطة دحضها بموضوعية مع إضافة المرجع والمصدر والطابع الزمني والعلامة الجغرافية، خصوصاً أنه زادت أخيراً الأخبار التي تتحدث عن حالات اغتصاب أو تدنيس للقبور أو حرق كنائس من قبل لاجئين وأجانب من المسلمين. وكان آخر هذه الأخبار ما حصل ليلة رأس السنة عندما تم التداول بأخبار كاذبة مفادها أنه تم إحراق كنيسة في مدينة دورتموند الألمانية، وأن ألف شخص من الأجانب هاجموا عناصر الشرطة وأضرموا النار في إحدى أقدم كنائسها وهم يرددون هتافات التكبير رافعين علم الثورة السورية، ليتبيّن بعد ذلك، أن مصدر هذه الأخبار الموقع الإلكتروني الأميركي "بريتبارت" الذي يُعتبر منبراً لليمين المتطرف. لتعود بعدها الأجهزة الأمنية ووسائل الإعلام الألمانية للتأكيد لاحقاً على أنه ليس هناك شيء من هذا القبيل، لافتة إلى أنها ادعاءات كاذبة بهدف التحريض ضد الأجانب والمسلمين، وبث العداء والكراهية وتهديد السلم الاجتماعي، والانقضاض مجدداً على سياسة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل وحزبها في قضية اللاجئين وثقافة الترحيب المعتمدة في ألمانيا. وحذرت كذلك من أن هذه المحاولات هي البداية لتقويض ثقة المواطن بالمؤسسات الرسمية في البلاد والتشكيك بسياسة الحكومة الاتحادية.
ويؤكد خبراء في مجال الأمن أن هذا النوع من الأخبار عادة ما ينتشر بسرعة خيالية لأهداف دعائية وتحريضية، وليس من السهل سحبه أو نفيه إلا في وقت متأخر، داعين لعدم تقييد السلطات الألمانية بإجراءات دفاعية بحتة، إنما اعتماد هجوم مضاد للرد واتباع نهج نشط. كما يرى الخبراء أنه ليس من الضروري القيام بعمل دفاعي محض، إنما يجب أن تكون هناك قدرة على مهاجمة المقرصنين ليتوقفوا عن الهجوم بدورهم، محذرين من تكرار ما حصل وبشكل انتقائي في العامين الماضيين عندما سجلت ضربات ضد الأحزاب السياسية والبرلمانية في البلاد.
وبحسب هؤلاء الخبراء، فإن غالبية هذه الأخبار يتم بثها من قِبل جهات خارجية في الولايات المتحدة وروسيا ويستفيد منها اليمين المتطرف في أوروبا، ومن ضمنه حزب "البديل من أجل ألمانيا" وحركة "وطنيون أوروبيون ضد أسلمة الغرب" المعروفة بـ"بغيدا"، وهم ناشطون بكثافة على شبكات التواصل الاجتماعي ويأملون في تحقيق خرق كبير في الانتخابات المقبلة، خصوصاً أن الكثير من الناخبين يعتقدون أن التعليقات وعدد المعجبين بها حقيقيون.
تحرك لمنع العبث بالانتخابات
كذلك تبرز المساهمات التي تقدّمها شركات وساطة لتأمين خدمات عبر الشبكة العنكبوتية من خلال شركاء وأفراد أو ما يعرف بـ"وايب روبوتار" التي يتم التعاون معها عبر عمليات بيع للتعليقات وزيادة عدد المتابعين على "تويتر" و"فايسبوك" و"غوغل بلاس" و"يوتيوب"، وقد تكون التعليقات إما سلبية أو إيجابية، وبمحتوى ومضمون معين، وقد يكون عددها بالآلاف للمساهمة في إحداث خضات جماهيرية وتأليب الرأي العام تجاه قضية بعينها، هذا إضافة إلى الحسابات الوهمية والمشاركات. ويقول خبراء في علم السياسة والاجتماع، إن الوسيط في تلك الشركات يقوم بتأمين الخدمة بالتنسيق مع طالبيها للتأثير بالجمهور عبر نشر شعارات جماهيرية سياسية في وسائل الإعلام الاجتماعي.
وفي هذا السياق، جاءت مطالبة رئيس البرلمان الألماني نوربرت لامرت، أخيراً، بضرورة التصدي لقراصنة الإنترنت الذين يهدفون للتلاعب بالرأي العام خصوصاً أثناء الحملات الانتخابية المقررة هذا العام، مؤكداً في حديث صحافي "ضرورة بذل الجهد وصرف المال لحماية أنفسنا من الأخبار التي يتم اختراعها واستخدامها لأهداف سياسية".
من جهته، قال مدير لجنة الانتخابات الاتحادية ديتر ساررايتر، في حديث لصحيفة "فرانكفورتر ألغماينه"، إن هناك استعدادات لمجموعة متنوعة من استراتيجيات الهجوم السيبرانية لمنع العبث بالانتخابات عبر تسلل قراصنة وبثهم أخباراً وهمية أو محاولة تعطيلها من خلال مهاجمة شبكة إنترنت إدارته المشفرة، وأكد أنه تم توسيع البنية التحتية لمراكز البيانات، ويمكن استضافة وتغيير المواقع في حالات الطوارئ، وهناك احتياطات فنية وتقنية ضد محاولات التلاعب والتصدي السريع للأخبار الوهمية والتقارير الكاذبة، والتي من الممكن أن تؤدي دوراً جد مؤثر يوم الانتخاب، ومنها مثلاً الحديث عن إقفال عدد من مراكز الاقتراع. ولفت إلى أنه ستكون هناك قناة خاصة على موقع "تويتر"، "لكي نكون قادرين على الرد وتوضيح كافة التعليقات في حينها".
وفي السياق نفسه، أبدت "فايسبوك ألمانيا" نيّتها التجاوب مع المطالب وتشديد المراقبة على أي محتوى واتخاذ إجراءات ضد نشر الأخبار الكاذبة على الإنترنت، معلنة أنه سيتم توفير إشارة للمستخدمين تسمح لهم بوضع علامة تحذيرية على أي منشور يُحتمل أن يكون كاذباً، ومن المرجح أن يتم وضع رابط على خطٍ موازٍ يضم معلومات حقيقية عن الموضوع.
إلى ذلك، يلفت مراقبون إلى أن السؤال الذي يطرح نفسه ما إذا كانت تلك الأفعال تشكل تهديداً للديمقراطية ولها تأثير جدي وحاسم على الرأي العام. ويشير باحثون إلى أن دراسات أظهرت أن أغلبية الناس يغيّرون رأيهم، على الرغم من أن الشبكات الاجتماعية مثل "تويتر" و"فايسبوك" لها تأثير على المحتوى الذي يشاهده مستخدموها، حتى أن الأمر وصل بتلك الشركات إلى الإقدام على إغلاق حسابات بعض أعضاء "التجمّع اليميني" المتطرف. ويلفت الباحثون في الوقت نفسه إلى أن السبب أيضاً قد يكون سياسات المسؤولين أنفسهم، وعليهم أن يتوقعوا أن يقدم الناس على محاسبتهم، وهو عادة ما تخلص إليه العديد من ورش العمل والمؤتمرات ومنها جدية وتأثير التحول الرقمي على الناس وأفكارهم، ومساهمتها في إحداث تغييرات جوهرية في المجتمعات.
المصدر: العربي الجديد - برلين ــ شادي عاكوم
↧