فقط منذ شهور بدأ شبه إجماع على أن جبهة النصرة خطر على سوريا والثورة، بين قادات معارضين وإعلاميين سوريين، وفقط منذ سنة ونصف تصاعدت أصوات قادات معارضين وإعلاميين ضد النصرة؛ وبكل بساطة انتقلوا من صف الدفاع عن النصرة إلى صف مهاجمتها والتبرؤ منها. الأزمة ليست فقط عند هؤلاء، الأزمة أن ذاكرة الناس قصيرة، تنسى بسرعة من رحّب ودافع وجمّل النصرة في السنوات الأولى من عمر الثورة، حتى قبل أن تصبح النصرة قوة مليشاوية كبرى نسبيا.
لا يهمنّي هنا الدخول بجدالات، أن قادات النصرة كان سجناء بشار الأسد، وأن النصرة مخترقة مخابراتيا من قبل النظام، ولا بجدالات أنها إنشاء ورعاية قطرية وتركية حتى العالم 2015، وربما ما زالت تحت العين القطرية، فكل ذلك صحيح رغم تناقضه الظاهري؛ النصرة وداعش وجيش الإسلام وأحرار الشام وغالبية الفصائل الرافعة للعلم الطائفي السني هي صناعة مشتركة بين كل المخابرات، وليست مثل الفصائل الرافعة للعلم الطائفي الشيعي صناعة إيرانية بحتة.
كارثة الثورة السورية منذ 2011 أن من تصدى لقيادتها وتمثيلها، والتأثير الإعلامي على جمهورها، كان قرارا قطريا سعوديا تركيا. ومن ضمن الكوارث التي ساهموا بها، عن وعي أو دون وعي، كان صعود النصرة؛ فكل مخابرات العالم لن تستطيع فرض فصيل إرهابي كالنصرة دون أن تُقدم تبريرات أخلاقية أو وطنية أو دينية من جماعات من أهل البلد. حتى بشار الأسد كان لا بد له من مبررات أخلاقية ووطنية سخّر لها الكثير من الجهد والمال، فأسوء المجرمين في التاريخ وفي كل البلاد بحاجة لتقديم مبررات أخلاقية أو وطنية أو دينية أو قبلية قبل تجهيز الجيوش والأسلحة وإطلاق شلالات الدم. فكيف الحال مع ثورة شعبية انطلقت طلبا للحرية والكرامة وحقوق الإنسان؟ ما كان للنصرة ومثيلاتها أن يصلنّ إلى هذه القوة لولا الدعم الإعلامي الكبير، والتبرير الديني والوطني والطائفي، ولولا اشتراك أسماء سياسية ودينية مشهورة وقنوات إعلامية كبيرة في تبريرها والدفاع عنها.
يمكننا أن نفهم دوافع -لا مبررات- الحكومات المتورطة في سوريا، لجهة دعم هذه الفصائل أو تلك، فهذه حكومات تتصارع فوق سوريا، وتسعى لمصالحها فقط، فمن الطبيعي أن تُسخَّر كبرى القنوات الفضائية كالجزيرة لدعم الإسلام السياسي عموما، والنصرة ومثيلاتها في سوريا؛ لكن لا يمكن لنا أن نقبل أي مبررات لمن قدم نفسه هيئة سياسية أو قناة إعلامية أو قائدا أو ممثلا أو وجها إعلاميا سوريا باسم الثورة، وبرر للنصرة ودافع عنها، فإن كان لم يدرك في عام 2012 كارثية هذه الرايات السوداء، فهي مصيبة، وإن كان فهم فهي مصيبة أكبر، والكارثة أن لا أحد منهم حسب علمي امتلك الشجاعة الأدبية أن يعتذر عن ضبابية رؤيته وضلال كلامه، بل كلهم ركض خلف تبريرات واهية عن خداع الدول لهم، وعن الحلف الشيطاني بين النظامين السوري والإيراني، لكنه هو، كهيئة سياسية أو جماعة أو قناة إعلامية أو كشخصية إعلامية، رموا اللوم لدرجة التخوين على الآخرين.
بعودة سريعة خمس سنين للوراء، نجد أن لا المجلس ولا الائتلاف الوطني اتخذوا موقفا حازما رافضا للنصرة وراياتها، بل حتى أن أسماء كثيرة منهما بررت للنصرة؛ طبعا جماعة الإخوان المسلمين ومؤيديها كان لهم السبق في فتح باب الرايات السوداء. كذلك نجد أن العديد من القنوات الفضائية السورية المتكلمة باسم الثورة دافعت عن راية النصرة، بل إن العديد من القنوات الإسلامية رفعت راية النصرة ومثيلاتها، وعلى شاشاتها انطلقت ذقون وعمائم الفتنة الطائفية، بحجة أن النظام الإيراني يمارس التحريض الطائفي أيضا، وكأن الشر يبرر شرا، أو الجريمة تبرر جريمة.
حتى بين الأسماء المشهورة باسم الثورة، يوجد الكثيرون ممن دافعوا ومهدوا للنصرة ومثيلاتها؛ فالسيد معاذ الخطيب في مؤتمر مراكش لأصدقاء الشعب السوري في نهاية العام 2012 وأمام ما يزيد عن مئة دولة دافع كرئيس للائتلاف عن النصرة؛ والدكتور برهان غليون في لقاء مع أورينت نت في منتصف العام 2013 قال أن جبهة النصرة ليست خطرا على الثورة السورية؛ والسيد ميشيل كيلو يطيل المديح في جبهة النصرة في نفس العام؛ وكذلك السيد جورج صبرا والعديدين من معارضة المجلس والائتلاف. ولم يتوقف الأمر عند هؤلاء السادة، فالعديدون ممن احتكروا شاشات الجزيرة والعربية بأصواتهم العالية وكلامهم الشعبوي مثل الدكتور كمال اللبواني برروا حتى لداعش في بداياتها.
وليس الفيسبوك بأقل تأثيرا من الفضائيات العربية والسورية، فكتائب كاملة ملأت الفيسبوك بالتشبيح والترهيب لمن يهاجم النصرة، وبقيادة نجوم فيسبوكيين تلاحقهم آلاف الإعجابات على منشوراتهم الطائفية والداعمة للنصرة ومنهجها.
بل إن الجزيرة لم تيأس من النصرة، فبعد الأوامر القطرية للنصرة أن تغير اسمها، سخّرت الجزيرة الكثير من العمل الإعلامي لتمرير النصرة، وقدمت الإرهابي الجولاني في أحسن صورة، وكذلك بعض الإعلاميين السوريين المشهورين مثل السيد موسى العمر جلسوا معه كتلاميذ يروجون له، وما زالوا مرجعا عند الكثير من السوريين.
ليست الغاية من هذا المقال هي التجريح الشخصي، لكن من يقبل أن يكون شخصية عامة، خاصة في حالة ذبح بلد كامل، يجب أن يقبل النقد والرفض وحتى الإقصاء؛ المشكلة أن لا أحد ممن دافع أو سكت عن النصرة ومنهجها تحلى بشجاعة الاعتراف بالذنب والاعتذار أو الابتعاد والصمت.
لكن لا بد أيضا من الاعتراف أن الذنب أيضا ذنب الجماهير السورية، التي قبلت بمبادئ تبريرية مثل "عدو عدوي صديقي"، ومثل " يا أخي، جلّ من لا يخطئ، ترى والله الجماعة طيبين"، ومثل "المهم نخلص من بشار بعدين منشوف"، فبعد ست سنين من الألم والدم واستعادة النظام الأسدي الفاشي لقوته يجب أن يدرك السوريون أن هذه التبريرات هي أوهام كبيرة، هم فقط من دفع ثمنها الغالي، وسيدفع ثمنها طالما أنها سائدة، فها هو الشيخ محمد علوش، من وضع النساء والأطفال في اقفاص كدروع بشرية في غوطة دمشق، يمثل الثورة السورية أمام وفد الطاغية الأسد في آستانا، فهذا نتيجة حتمية لذاكرتنا القصيرة وقبولنا بالكلمة والمبدأ الخاطئ.
ختاما، لا بد من التأكيد أن الكلام عن أي فصيل مقاتل بالنقد أو الرفض يجب أن يعي الفرق الكبير بين الشباب السوري المطحون بين ظلم النظام الأسدي ودمويته وبين انتهازية قادات الفصائل وبين غياب الوعي والإعلام القدوة الموجه للناس.
علاء الدين الخطيب
المصدر: الاتحاد برس
↧