ولد محمد سعيد قباني في مدينة حلب السورية، ووجد نفسه مع نهاية 1969 وحتى 1974 يعيش في الجزائر، وتحديداً مدينة وهران، حيث عمل والده مدرساً للعربية في مرحلة التعريب التي ساهم بها عدد من الأساتذة العرب في تلك المرحلة.
منذ الصغر كانت ميول قباني نحو الرياضيات والفيزياء والكيمياء، كان في المرحلة الثانوية واحداً من المتفوقين في مجاله، ما أثار انتباه معلميه الذين وجدوا فيه "نابغة" في تلك العلوم.
يتجه الشاب قباني في مرحلة ما بعد الثانوية إلى دراسة الهندسة الإلكترونية في الجامعة. الدفعة الأولى للهندسة الإلكترونية التي تخرج فيها قباني هي الدفعة الأولى في بلده سورية "ففي تلك المرحلة لم تكن علوم الفيزياء والكيمياء والحاسوب قد دخلت طور التعليم في بلادنا بعد.
كان من الطبيعي أن أبحث عن مواصلة العلم وتحصيل الدكتواره حيث أجد سبيلا. راسلت جامعات كثيرة، ومنها فرنسية باعتبار لغتي كانت الفرنسية، لكن نصيبي كان أن أُقبل في النمسا. استغربت بداية، فكيف سأتعلم لغة ألمانية وكنت أجد في ذلك تحدياً لأني كنت أحبذ الفرنسية أو الإنكليزية".
أما لماذا يختار طالب علم الهجرة عن بلده للبحث عن التحصيل العلمي ومواصلة البحوث في المهجر، فلقصة قباني الشخصية ما يشبهها بين آلاف قصص أطباء سوريين، بالآلاف في النمسا وألمانيا وبريطانيا وغيرها من الدول. بعض هؤلاء مر على هجرته عقود طويلة حتى أصبح يساهم في تقدم علوم الدول المستقبلة في الغرب "في غياب بيئة علمية توفر لطالب العلم أقل ما تحتاجه من بنى تحتية للبحث العلمي كما تجده في الدول الأخرى التي تقبل على أساس ما تحمل من طموحات علمية".
لكن شيئا ما تراكم حتى دفع بضيفنا الذي التقيناه في العاصمة النمساوية فيينا. فهو الذي رأى عشرات الآلاف من أبناء شعبه قد وجدوا أنفسهم في مسار التهجير إلى البلد الذي يقيم فيه.
في السنة الثانية من الدراسة الجامعية في سورية، وجد نفسه متخصصا في الهندسة الكهربائية والقدرة. لكنه يشرح: "بدأت برفض ما أسميه سكة المواطن العربي.. دراسة متوسطة وربما جامعة وبعدها الخدمة الإلزامية والزواج وإنجاب أطفال واللحاق بلقمة العيش. وبدل أن أكسر طموحاتي العلمية، مثلما تكسرت طموحات كثير من أبناء جيلي، ذهبت لكسر تلك السكة بالضرورة وبأية طريقة ممكنة لرفضي القاطع أن أصبح كما هو مخطط لنا السير في اتجاه محدد كالقطيع".
خنق الكفاءات
أوضاع سورية دفعته إلى "المسارعة في البحث عن جامعة في الخارج، قبل أن أُساق كغيري إلى خدمة الجيش" كمثل على حال يصفه بأنه "لا يساعد أبدا على بقاء المبدع والعالم في بلده، بل للأسف ينتشر الفساد ليكون منفرا وطاردا للعقول باتجاه الغرب".
في تفاصيل ما يرويه عن "اضطرار الهجرة" يردف قباني قائلا:" ما أن تنتهي دراستك الجامعية في بلدي حتى تساق إلى الخدمة الإلزامية التي قد تمتد سنين طويلة تكسر كل طموحاتك العلمية. لأعطيك من تجارب أصدقاء وزملاء تم سياقتهم إلى الجيش، بدل أن يستفاد من علومهم وتفتح آفاق البحث واستكمال الدراسة لهم، يجري توزيعهم كالتالي على سبيل المثال: خريج فيزياء أو كيمياء أو هندسة حاسوبية، بل حتى لو كنت حلاقا أو بلاطا أو أية مهنة تعمل، يتم الفرز بحسب الولاء للقائد العسكري... فلان لديه ابن/ابنة في مرحلة الدراسة فتصبح خدمتك لبلدك من خلال استغلال الضباط للخريجين بحيث يصبحون مدرسين لأبناء الضباط. وعند ذلك الحد تنتهي كل آمال استكمال البحث العلمي".
ويضيف: "أمر معروف أن مسألة الولاء تكون لبلدك، لكن للأسف الشديد من يتحكم ببلدي منذ عشرات السنين حول الولاء إلى شخوص الحكام وليس للبلد... انتشر الفساد حتى نخر عظام الوطن، وقد عشته بنفسي... والدي الذي توفي في 2014 وبعد خدمة طويلة في مجال التعليم والابتعاث إلى الجزائر انتهى به المطاف مريضاً راتبه 5 آلاف ليرة سورية ( حوالي 100 دولار في ذلك الزمن) لا تكفي للدواء... لو كنت حرفيا، بلاطا أو في مجال آخر مهما كان تتحول خدمتك العسكرية إلى خدمة مزارع وبيوت الضباط والمسؤولين... مشاريع التربح والثراء التي تستغل فيها العقول واليد الماهرة لم تنتج أية بنية تحتية في بلادي... لذلك كنت مصرا على تمردي على هذا الواقع، وقبلت أن أحضر إلى النمسا رغم أني كنت أنتظر موافقة جامعات فرنسية تأخرت بالرد، وإلا لم يكن أمامي سوى أيام لأسحب إلى الجيش العربي السوري وأصبح واحدا ممن ذكرتهم لك في هذا الجيش الذي تبين كيف أن مهمته قتل شعبي وتدمير البلد".
يلخص الدكتور قباني الواقع الذي يدفع طالب العلم إلى الهجرة في "أزمة واقع الحكم والنظام العربي". ويضيف "عزوف كثيرين من جيلي عن الالتحاق بالجيش، كخدمة إلزامية، والبحث عن الهجرة للدراسة في الخارج ليس لأنه لا ولاء لبلادنا. المشكلة أن كل العلوم وكل العلماء يصبحون مجندين لخدمة الضباط وأقاربهم وبهذا يصبح الأمر كله فساد ومحسوبيات. في الواقع السياسي الذي كان قائما، وهو ما يزال، لا يمكنك خلق بيئة منفتحة تبني بنية تحتية تحتفظ بالعلماء لوطنهم وفيه... أو حتى لتشجيعهم على العودة بعد أن كانت الكثير من الطاقات التي عادت من شتى البلاد التي درست فيها تعيش واقعا ينهش فيه الفساد... فمهندس كهرباء وطاقة يجري وضعه في خدمة لا تمت لما تخصص فيه... فلذلك ترى بعضهم في أول فرصة يغادر بلده مرة ثانية بعد أن يكون قد رفض مغريات كثيرة في الغرب. فشعارات ومانشيتات الوطنية العريضة تثبت بالملموس أنها كذبة كبيرة".
الفرق بين التحصيل العلمي، بالنسبة لمهاجر طالب للعلم كالدكتور قباني، وبين واقعه الاغترابي وواقع بلده العربي أن: "هنا توجد دولة ومؤسسات، وإن وجد فساد فهو الحالة الشاذة عن القاعدة، بينما هناك الفساد هو القاعدة... يمسي من يرفض الفساد غبيا ومخربا لمصالح المنتفعين من الفساد، ليجري التخلص منه بأية وسيلة كأحد عوائق تقدم وثراء واستفادة من يحتكرون الثروات الوطنية باسم الوطن".
بنية الفساد
ليشرح الدكتور قباني ما يعنيه عن "غياب الدول الحقيقية ومؤسساتها" يذهب إلى روح الدعابة في قصة زيارة وزير خارجية بلده (حتى لا آخذ مثلا عن غير بلدي) إلى فيينا "فأخذه وزير الخارجية هنا إلى منزله في منطقة راقية، سأله السوري من أين لك هذه الفيلا؟ أجابه: لقد ورثتها عن والدي، ولكن راتبي حوالي 8 آلاف يورو يكفي لأن أبقى فيها. وتعرف بعض الأحيان هناك مناقصات نجريها لمشاريع فيقدم لنا البعض هدايا نستفيد منها في تطوير الفيلا وبقائها حديثة. وبالنهاية انظر كيف تتطور بلدنا وبناها التحتية".
في المقابل وبعد فترة يزور الوزير النمساوي سورية ويضيف قباني: "أخذه الوزير السوري، كرد لتلك الزيارة إلى بيته في فيينا، في رحلة خاصة... وجد الوزير النمساوي نفسه أمام مزرعة ضخمة سارت السيارة حوالي كيلومتر حتى وصلوا إلى ما يشبه القصر. نزلا وعلامات الاندهاش بادية عليه وسأل الوزير السوري: من أين لك كل هذا وكم هو راتبك؟... أجابه: راتبي 60 ألف ليرة، يعني حوالي ألف دولار، لكن كما أخبرتني أنت نجري أيضا بعض المناقصات على مشاريع ونحصل من خلالها على بعض ما يفيدنا في حياتنا. الوزير النمساوي الذي كان قد تجول ويعرف سورية جيدا قال للوزير السوري: لكن عن أية مشاريع تتحدث؟ يعني بصراحة لم أر بنية تحتية متطورة ولا مشاريع ضخمة. فأجابه الوزير السوري: "هذه المزرعة التي أنت فيها واحدة من المشاريع. وهي هكذا عندنا".
القصة التي يرويها قباني كدعابة يريد من خلالها إيصال رسالة بالقول: "أنت هنا في فيينا ترى يوميا مشاريع ضخمة، انظر إلى المواصلات وتطور البنى التحتية باستفادة من العلم والخبرات. وقارن بينها وبين ما يجري عندنا من محسوبيات وفساد لتكتشف ما أعنيه بتأصل الفساد الطارد لفئة كبيرة من العلماء من بلادنا... وللأسف من يستفيد من هذا العلم ليس عالمنا العربي".
في النمسا وحدها، وفقا لما طرحه بعض العرب المقيمين فيها وبمعلومات مؤكدة يوجد ما لا يقل عن سبعمائة طبيب من أصل سوري. هذا العدد قبل موجة الهجرة واللجوء الأخيرة التي جذبت ما يربو عن الثمانين ألفا. بينهم الآلاف من الجامعيين وطلاب العلوم والحرفيين.
دراسات أخرى
بقي الدكتور قباني يعمل في مجال الهندسة الإلكترونية. وفي عام 2004 اتجه إلى دراستين أخريين ليحصل على ماجستير ودكتوراه في اللغات السامية ومقارنة الأديان ودكتوراه في الإسلام، ويحمل اليوم على عاتقه كمحاضر في جامعة فيينا مسؤولية تأهيل أساتذة التربية الدينية. فالنمسا بلد يضع الديانة الإسلامية ضمن المناهج التعليمية في مدارسها لأنها تعترف بالدين الإسلامي، وهو يدرّس من سيصبحون مدرّسين لذلك المنهاج لاحقا، بينهم نمساويون اعتنقوا الإسلام ونسبة كبيرة من المدرسين هم من الجيل الثاني وأتراك وألبان وعرب.
ويرى قباني بأنه هناك تحديات كبيرة بين صفوف الجاليات. فالشد بين الثقافتين، وهذا ينطبق على الجيل الغربي الشاب، قد يؤدي إلى انعكاسات سلبية على الجيل الثاني... بينما الصراع على الهوية إذا ما وجد لها توليفة فيها توائم لثقافتين منتوجها إيجابي وكبير على الجيل الثاني. يختم بالقول: "الجهل والخوف هو عدو الإنسان". ولذلك يرى بأن "هجرة الأدمغة والعلماء العرب تستند على الجهل وتجهيل المجتمعات، بحيث لا يبقى أمامه سوى الهجرة والبحث عن مكان للتحصيل العلمي في الخارج، وخصوصا في المشرق العربي".
المصدر: العربي الجديد - فيينا ــ ناصر السهلي
↧