هل يعيد التاريخ نفسه؟ كلا. فلا شيء يتكرَّر، بالتمام والكمال، عندما يتعلق الأمر بما هو تاريخي (سياسي واقتصادي وثقافي واجتماعي)، برغم قول ماركس إنَّ التاريخ يعيد نفسه، مرةً كمأساة وثانيةً كمهزلة (أو ملهاة). ولكن ماركس كان يتحدَّث عن السلالة البونابرتية في فرنسا، وليس عن أمكنةٍ وأحداثٍ تاريخيةٍ يغلب عليها، للوهلة الأولى، التكرار. مع ذلك، هناك ما يني يحدث لأمكنةٍ معينةٍ بحيث يصحُّ القول، بسبب تواتر حدوثها، إنَّ التاريخ يكرّر نفسه. فكَّرت بهذا الأمر، وأنا أقرأ لائحة مختصرة بتواريخ مدينة داريا السورية المنكوبة. بدا لي فعلاً أنَّ هذه المدينة التي أرتنا تلفزات العالم خرائبها وهياكل عمائرها الفارغة من أيّ حضور إنساني طالعة من تحت عصف نووي. لا يمكن إلا للتدمير المنهجي أن يوصل إلى ما صارته داريا. لا حرب عصابات، لا مدافع ودبابات يمكن أن تمسح أحياءً برمتها، حسب ما رأينا على التلفزات التي اقتربت كاميراتها من الخراب. فقط الطيران والقصف الجوي والبراميل التي لا تستهدف موقعاً بعينه، بل مساحة، يمكنها أن تُحدث هذا التدمير الذي يخجل منه العدو قبل الصديق، فكيف بابن البلاد نفسها.
محزنةٌ داريا. مبكية. لكن لا حزن على سيماء العالم، ولا دموع في مآقيه. لا شيء. كأنَّ هذا التدمير، بعد التجويع والتركيع، هو ما يجب أن يحدث. كأن ذلك من طبائع الأمور في هذه المنطقة من العالم. فلا دهشة ولا استغراب، ناهيك عن استنكار. ثم إنَّ "الزايد أخو الناقص"، كما يقول مثلنا الشعبي. بل الزائد يبكم ويشلُّ.
ترافق الخروج من داريا مع زلزال ضرب بلدةً إيطالية. إنها كارثة بالنسبة للإيطاليين، والأوروبيين عموماً، الذين لم تعرف أجيالهم الحالية ويلات الحروب. فهناك مئاتٌ قتلوا وجرحوا، وعشرات آلاف يقيمون في أمكنة إيواء مؤقت. هذه مأساة ارتكبتها الطبيعة، ولا يد لبشرٍ فيها. مثلها مثل الأعاصير والطوفانات. الطبيعة لا تفكُّر ولا تتقصَّد السوء، أما الإنسان فيفعل، حتى مع أقرب الناس إليه، فما إن تشيطن شخصاً، طائفةً، شريحةً من الناس، حتى يسهل استهدافها، بل يصبح استهدافها واجباً وطنياً وقومياً مرةً، ودينياً مرةً أخرى. كيف يتحول القتل من جريمةٍ إلى واجب؟ كيف يتم تجريد الإنسان من كل أهليةٍ وحقٍّ بالحياة؟ هذا ما تغطيه الدعاوى والأيديولوجيات، المدنية والدينية على السواء. فـ "الخائن"، في نظر القومي العقائدي، مثل "الكافر" في نظر المتشدِّد الديني. لا فرق. لأن الموت هو العقاب في الحالتين. هذا ما حصل لداريا، وغيرها من المدن والبلدات السورية، فقد حوَّلتها الدعاوى الفاشية من أمكنةٍ "سليمة"، معافاة، إلى أمكنةٍ "موبوءة". ألم يتحدّث "الدكتور" عن الفيروسات التي تغزو الجسد، وكيف يتم التخلص منها. فقط الأمكنة الموبوءة يمكن أن "تُعالج" على هذا النحو الفظيع.
لا أريد أن أخفّف على المجرم الراهن جريمته في داريا. فينبغي أن تُضاف إلى لائحة جرائمة التي لا يعادلها أيّ عقاب. فأيّ عقابٍ على جرائم مثل هذا النوع رمزي جداً. ولكن، عدّدوا معي بعض ما عرفته داريا في تاريخها الدهري من أحداث، تشي بالتكرار:
تأثرت داريا بمعظم الأحداث التي شهدها العصران، الأموي والعباسي، وما جرى خلالهما من أحداث سياسيةٍ وعسكرية. كانت تقطن داريا قبائل يمانية وأخرى قيسية. وتعرّضت للحرق نتيجة تلك المنازعات عام 26هـ وكذلك عام67 هـ في عهد هارون الرشيد، حيث ثارت الفتن، مجدّداً، بين القيسية واليمانية، أو ما تعرف بفتنة أبي الهيذام، فحرقت ونهبت. وفي عام 233هـ، تأثرت داريا بالزلازل. ومرَّت عليها المنازعات ما بين الأتابكة والسلاجقة، ولم تنج من الغزو الصليبي، والتتار الذين عاثوا فيها فساداً وتدميراً. وقبل التدمير الأسدي، شهدت، في أثناء الاحتلال الفرنسي، "معركة داريا الكبرى"، فصبَّ عليها المحتل جام غضبه.
وفي فتنة أبي الهيذام، أيام الرشيد، بين القيسية واليمانية، قال الشاعر قيس الهلالي يصف الدمار الذي حلَّ بها:
كأنَّا يوم داريا أسود/ تدافع عن مساكنها أسودا. تركنا أهل داريا رميماً/ حطاماً في منازلهم همودا. قتلنا فيهم حتى رثينا/ لهم ورأيت جمعهم شريدا.
هكذا نرى لبشار الأسد أسلافاً (أسوداً!!) في "فتننا" التي لم تخمد نارها حتى اليوم، لأننا، على الرغم من وجودنا في القرن الحادي والعشرين، لم نخرج من كتاب "الملل والنحل".
المصدر: العربي الجديد - أمجد ناصر
↧