ينكب على الأرض باحثاً عن بطاقة هويته الشخصية. يتحول الانكباب إلى زحف وهذا بدوره يصبح استلقاءً يائساً على أرض حديقة عامة في دمشق. ضاعت بطاقة الهوية الشخصية بعد أن كانت قبل لحظات في جيب البنطال. لا يحتاج القارئ للكثير من الخيال ليدرك أن فقدان البطاقة الشخصية هو تعبير مجازي عن الوقوع في أزمة هوية.
المشهد السابق هو جزء من كابوس، يقدمه لنا الكاتب رائد وحش بصيغة المتكلم (سرد ذاتي). والكابوس هو جزء من مونولوج عن الحياة التي يعيشها الكاتب، ذو الخمس والثلاثين سنة، في ظل الحرب. طبعت الحرب حياته في مخيم اللاجئين الفلسطينيين، "خان الشيح"، على طرف دمشق الجنوبي الغربي، بكل تفاصيلها.
يضفي الرواي والشاهد على الحرب، رائد وحش، على فقدان الهوية في أرض صلبة صورة مجازية عالية الدقة طبق الأصل. تهز تلك الصورة أساسيات الوجود، بكل معنى الكلمة: يلاحظ رائد أن قطعة معتبرة من سماء دمشق مفقودة، "كما لو أن وحشاً افترسها بأنيابه العملاقة".
"قطعة ناقصة من سماء دمشق" هي تواصل ذاتي (بوح ذاتي) بين الكاتب ونفسه عن الحرب السورية. وتشكل الملاحظات الواقعية من قلب الحدث نواة هذا العمل الأدبي، مع أن الكاتب، مراراً وتكراراً، يعيد تشكيل الأحداث الواقعية ويقدمها بصورة استعارات خيالية. ومن هذا المزيج غير العادي من الخيالي والواقعي يبرز السؤال المُشكك: "هل يحدث هذا بالفعل؟" حتى الآن لا توجد لهذا العمل الصغير الحجم، ترجمة ألمانية من لغته الأصلية، العربية، بيّد أن هذا العمل يستحق منا الاهتمام.
بلد في قاع الهاوية: "السؤال الذي يطرح نفسه في سوريا اليوم، أكبر من مجرد إن كان المواطنون لا يزالون يشعرون بأنهم جزء من الدولة التي تقصف شعبها، وتعمل تلك الدولة بذلك على هدم نفسها. يرسم رائد بعمله الأدبي نظرية التطور الطبيعي، ولكن بصورة معكوسة. ففي وسط الدمار والشوارع المقطوعة ينحدر البشر في سلم التطور ويعودون إلى أصلهم الحيواني"، بحسب ما يرى شتيفان بوخن.
إعادة حيونة الإنسان
يزحف بطل الرواية، الذي هو الراوي في نفس الوقت، على يديه ورجليه على أرض دمشق بحثاً عن بطاقة هويته الشخصية، ولكنه لا يفلح بالعثور عليها. وبفعلته تلك يقود القارئ إلى سؤال مخيف: هل نحن ما زلنا بشراً؟ السؤال الذي يطرح نفسه في سوريا اليوم، أكبر من مجرد إن كان المواطنون لا يزالون يشعرون بأنهم جزء من الدولة التي تقصف شعبها، وتعمل تلك الدولة بذلك على هدم نفسها. يقدم رائد بعمله الأدبي نظرية التطور الطبيعي، ولكن بصورة معكوسة. ففي وسط الدمار والشوارع المقطوعة ينحدر البشر في سلم التطور الطبيعي ويعودون إلى أصلهم الحيواني. تنبح ميلشيات النظام على الحواجز وعند تفتيشها البيوت كالكلاب. كما يعوي الراوي نفسه كالذئب في الفجر لسماعه نشاز ضربات المدفعية الميدانية. تبث قطعة جبنة من ماركة "البقرة الضاحكة"، الرخيصة الثمن، في نفسه بعض الأمل. يلتهم القطعة ويتخيل أنه "يتحول إلى قطيع من البقر الضاحك".
حين يقتصر التواصل الإنساني على نشر الكراهية، عندها تنتهي اللغة البشرية. وفي النهاية لا يبقى غير أصوات الحيوانات وإيماءاتها. يموضع رائد نفسه -وبشكل واضح- ضد النظام السوري، الذي يصفه بـ"الفاشيين الجدد" في أعلى مدخل أحد الثكن العسكرية، التي يتم فيها تأهيل المجندين الجدد، علق الجيش السوري لافتة مكتوب عليها "مصنع الرجال".
لكن وبالرغم مما يفعله النظام من قصف للمدن بالبراميل المتفجرة وتعذيب المعتقليين في أقبية السجون، لا يصطف رائد مع المعارضين المسلحين. فأولئك المعارضون المسلحون هم من أغلقوا آخر خمارة في الحي، كانت تبيع العرق البلدي. عندما يخبره أحد المقاتلين أن نصراً على وشك التحقق في إحدى جبهات القتال، يدرك رائد أنه لم تعد هناك إمكانية لأحد للخروج من هذه الحرب منتصراً.
يشتغل رائد، الذي نشر أربعة دواوين شعرية، في هذا المونولوج النثري كمؤرخ إخباري عن التدهور الحضاري للإنسان. ويستقي رائد، الذي ولد لعائلة بدوية فلسطينية لجأت بعد عام 1948 من شواطئ بحيرة طبرية إلى مخيم على طرف دمشق، مادته من ينبوع ذاكرة التقاليد الجمعية.
يذكره الفقر، الذي يحياه في ظل القصف، بظروف عيش جديه في مخيم خان الشيح. يشعل رائد في المساء قنديلاً، تماماً كما كان يفعل جداه قبل سبعين عاماً، ليبصر في الظلام. وتبدو له الكهرباء كما لو كانت مكتسباً مؤقتاً. الظلام، هنا، ليس مجازاً ولكنه الحقيقة. اليوم غادرت أختاه الصغريان المخيم للبحث عن الطعام، وهما حافيتا القدمين، تماماً مثلما جاءت جدتهما إلى المخيم قبل عقود وهي حافية القدمين.
يقدم رائد وحش لمحة عن الحياة اليومية في ظل الحرب. غير أن الصورة التي ينقلها ليست ساكنةً، بل تظهر التغيرات بمرور السنين. فعلى سبيل المثال، في بداية الحرب كات الرعب يعتري السوريين من فكرة أن المخابرات السورية تراقب كل خطواتهم وتتنصت على كل مكالماتهم الهاتفية. ولكن بمرور الوقت أصبحت المبالاة هي المعتادة وسيدة الموقف. وسواء أكان المرء مراقباً أم لا لم يكن ذلك أمراً على جانب كبير من الأهمية.
"حرب على الطبيعة"
يصف رائد بشكل مفصل وجلي توسيع البشر حربهم بعضهم على بعض إلى "حرب على الطبيعة". ففي الشتاء بدأ الناس بحملة جماعية بالفؤوس والمناشير على أشجار الزيتون والمشمش والسرو. يستخدم الناس أخشاب الأشجار للتدفئة على نارها. اختفت بساتين كاملة خلال سنوات قليلة. الفكرة التي نستوحيها هنا أن الحرب السورية هي أكبر من مجرد تقرير من هو الأقوى في هذا الصراع المفعم بالكراهية. المجتمع السوري يفني موارده الطبيعية، وأسس الحياة نفسها.
لم يكن كل شيء على ما يرام في سوريا ما قبل الحرب، على العكس فقد كانت الأوضاع سيئة. غير أن ماضي سوريا قبل الحرب وفجأة يصبح بكل علله، شيئاً يُفتقد وينظر إليه بإعجاب وحنين. اليوم يحزن الراوي لغياب صوت المؤذن لصلاة الفجر، وهو الذي كان ينتقد الدين وكان يشعر أن أذان الفجر هو تشويش على هدوء الليل. غياب الأذان يعني أن جبهة القتال أصبحت على مقربة من الراوي.
في رؤية كابوسية تنهض جثة رجل، صديق للكاتب، من بين أنقاض بيت، دُمر بفعل قصف جوي. ترى الجثة المبعوث فيها الحياة من جديد، الدم يسيل عليها وتنفض شعرها المنفوش وتخاطب الجثث الأخرى المدفونة حتى الأنقاض: "تستحقون ما حل بكم". في مواضع كهذه يكتسب المونولوج عمقاً ذا معنيين. "تستحقون ما حل بكم"، تعكس الموقف القذر للنظام ضد ضحايا القصف الجوي. ومن جهة أخرى تطرح عبارة الجثة تلك السؤال عن المسؤولية الجمعية عن الكارثة في سوريا. ماذا كان بوسع كل فرد أن يفعل لمنع ما يحدث من الحدوث؟
"قطعة ناقصة من سماء دمشق" عمل أدبي من أعمال أدب الأنقاض. لا بد أن الألمان يعرفون ماذا يعني أدب الأنقاض. إن أوكسجين الحياة لهذا الأدب هو الانهيار وانحدار الوجود الإنساني والمجتمعي إلى مهاو سحيقة. إنه أدب "ساعة الصفر"، يكتب شتيفان بوخن.
أدب ساعة الصفر
"قطعة ناقصة من سماء دمشق" عمل أدبي من أعمال أدب الأنقاض. لا بد أن الألمان يعرفون ماذا يعني أدب الأنقاض. إن أوكسجين الحياة لهذا الأدب هو الانهيار وانحدار الوجود الإنساني والمجتمعي إلى مهاوٍ سحيقة. إنه أدب "ساعة الصفر".
"ألا نزال هنا؟ هل هذه هي الأرض التي نعرفها؟ هل نما على جلودنا فراء؟ هل أصبحت لنا ذيول ومخالب وأسنان حيوانات كاسرة؟ ألا نزال نمشي على أيدينا فقط؟"، يتساءل العائد من الحرب بيكمان في مسرحية فولفغانغ بورشرت (1921-1947) "في الخارج أمام الباب" المكتوبة عام 1946.
لن يغفل القارئ الألماني عن أوجه التشابه بين الكتابات باللغة العربية من سوريا وأدب الأنقاض الألماني كالقصص القصيرة لكل من هاينرش بول وفولفغانغ بورشرت. وككُتاب الأنقاض الألمان، يعي رائد وحش أنه وبعد كل تلك السنوات من وابل البروبغندا، لا بد من إعادة اختراع اللغة من جديد حتى تستطيع التعبير عن المشاهدات الواقعية وعن المشاعر.
"خلال عكوفي على تسجيل ما أسمع من تجارب أخوتي وأصدقائي وأولاد المخيم&8230;جمعت مادة تصلح لرواية"، يقول الراوي في نهايات سرده. ولكن من لديه الطاقة على كتابة رواية عندما يتفوق الواقع على الخيال ويغلبه؟
حين تضع الحرب السورية أوزارها، هذا إذا وضعته، ربما يشهد رائد وحش ذلك من منفاه في ألمانيا. فلقد فر وعائلته إلى ألمانيا من ويلات الحرب. ولقد رتب أمر فراراه من سوريا مهربون جزء منهم في جيش النظام والجزء الآخر في صفوف الثوار. وتشكل قصة فراراه المجاز الأخير: فحين يتعلق الأمر بإبعاد صوت العقل إلى خارج سوريا مقابل الحصول النقود، يتعاون النظام وأعداؤه على تحقيق هذا الغاية.
شتيفان بوخن- ترجمة خالد سلامة- موقع قنطرة
↧