حكاية وادي بردى
محمود الزيباوي | السبت 04/02/2017
تحوّل وادي بردى في الأشهر الماضية إلى ساحة حرب، وبات "منطقة منكوبة"، وهو في الماضي القريب وادي البنفسج والذهب، ومنفذ دمشق السياحي. بين جباله يسير نهر بردى متعرّجا حتى منطقة الربوة، وعبر طرقه يسير "قطار المصايف" وصولا إلى رياق، عند حدود الجمهورية اللبنانية.
في العام 1321، انتهى الملك المؤيد أبو الفداء إسماعيل بن علي، صاحب حماة، من تأليف كتابه "تقويم البلدان"، وذكر فيه الزبداني، وقال في تعريفه بها: "الزبداني مدينة ليس لها أسوار، وهي على طرف وادي بردى، والبساتين متصلة هناك إلى دمشق، وهي بلد كثير المفازة والخصب، ومنه إلى دمشق ثمانية عشر ميلا". لا تذكر كتب التراث منطقة تُعرف باسم "وادي بردى"، غير أنها تتحدث عن واديين مجاورين لبردى. يرى محمد كرد علي، أن هذين الواديين هما وادي بردى ووادي معربا، ويرى أحمد دهمان أنهما وادي بردى الغربي ووادي بردى الشرقي.
في "القول الحق في بيروت ودمشق"، يذكر عبد الرحمن بك سامي في العام 1890، وادي وادي بردى، ووادي عراد: "كان عن يسارنا وادي بردى المشهور بكثرة بساتينه ورياضه وثماره ومياهه العذبة، وعن يميننا وادي عراد بأشجاره وحدائقه، وأمامنا منظر بساتين كثيرة الأشجار والنبات تأخذ مدى النظر ولا ترى نهايتها، فكأن والحالة هذه لنا منظرا جمع معظم بهاء الطبيعة وكمال الحسن". تنتهي رحلة عبد الرحمن بك سامي عند محطة الهامة، وهي محطة "محاطة بالحدائق والبساتين من كل صوب، وأمامها جدول ماء ينحدر كشلال إلى بركة صغيرة هناك يخرج منها الماء لسقاية بعض البساتين المجاورة، وعندها مقهى وبضعة دكاكين. وتبعد عن قرية الهامة نصف ميل إلى جهة الجنوب. أما الهامة فقرية مبنية على أكمة تحدق بها الجنان من كل ناحية، وفيها مئة وثلاثين بيتا، وهي أكبر جميع قرى ناحية سوق وادي بردى إلا الزبداني، ويقصدها كثيرون من أهالي دمشق للنزهة والانشراح برياضها الواسعة الأنيقة، وهي كثيرة الثمار ومشهورة بسفرجلها الذي يكبر حجمه ويلذ طعمه جدا. وفيها كثير من غياضه، ويمرّ بساتينها نهر بردى من تحت قنطرة فيها، وبقرب القنطرة يتقسم إلى قسمين، قسم يظلّ سائرا على خطه مرتفعا ليسقي الأراضي العالية ويسمونه نهر يزيد، والثاني يأخذ بالانحدار لسقاية الأراضي الواطئة ويبقى اسمه بردى".
يعود الراوي هنا إلى كتاب "الروضة الغناء في دمشق الفيحاء"، وينقل عن مؤلّفه نعمان أفندي قساطلي، قوله في تحديد مسار نهر بدى وتفرّعه: "أنهر الشام أصلها واحد مخرجه من جنوبي قرية الزبداني، وهذا النهر بعد أن يسير بسهل الزبداني الخصب وينتهي منه، يأخذ بالانحدار في وادي بردى الذي كان يُسمّى وادي البنفسج لطيبه، ووادي الذهب لغناه، حتى يصل إلى قرية الفيجة، فينضمّ إليها ماؤها العذب الزلزالي المساوي له في الغزارة، ثم قرب دمّر ينقسم منه نهر الديراني، وعند جسر الخشب نهر ثورا، وبعده بقليل نهر قنوات، ثم نهر بانياس، ثم ما بقى يظل اسمه بردى، وعند وصوله إلى قلعة الشام ينقسم منه نهر عقربا، وعلى ذلك نكون أنهر الشام سبعة وهي: بردى، يزيد، الديراني، ثورا، قنوات، بانياس، عقربا".
يصف عبد الرحمن بك سامي "وادي بردى الجميل" الذي تحيط به الرياض من كل جانب "وكل قراه قائمة على آثار قديمة من زمن الرومان"، ويقف في قرية سوق وادي بردى، "وهي أكبر قرى هذا الوادي، قائمة على آثار مدينة الإبلية القديمة، ووراء هذه القرية في الجبل آثار كثيرة من بناء ومدافن مما يجذب نظر السائح لمشاهدتها، وهناك تجد في الصخور أقنية قديمة محفورة حفرا متقنا من أيام الأقدمين، يسير فيها الماء لسقاية الأراضي المرتفعة".
يتكرّر هذا الوصف في كتب كل من مرّ بها الوادي ووصفه في مطلع القرن العشرين. في "منادمة الأطلال ومسامرة الخيال"، يستهلّ ابن بدران السّعدي حديثة بالمناجاة، ويقول: "لجّ بِي السهر ليلة من الليالي منفردا أنادم الأطلال والخيال، فتجلّت لي دمشق غادة حسناء مسفرة عَن جمال وَجهها تقول: أَلا لفتة لأحاديث آثاري وهلا ساعة في تذكار أخباري، فَقلت: أَنا كما تعلمين غَرِيب حل مأوى الغرباء كما قَال أبو سليمان الْخطابِيّ". ثمّ يشرع بذكر الأودية "اللاتي لأمراض القلوب أدوية"، وينظم في وصف وادي بردى:
"أوّلهم يا صاح وادي بردى/ واد ترى للأنس فيه مددا
تجري عليه بالدموع الأعين/ اذ قصرت عمّا حواه الألسن".
في "الرحلة الشامية"، يقودنا الأَمير محمَّد عَلي بن محمد توفيق بن إسماعيل بن إبراهيم بن محمد علي من الزبداني إلى محطّة التكيّة، وصولاً إلى سوق وادي بردى. "وبين سوق بردى ومحطّة التكيّة، قرية اِشتهرت بكثرة الفاكهة وجودتها، ويُقال إن جميع الفواكه المشهورة في بلاد الشام من أوّلها إلى آخرها توجد في حدائق هذه القرية. أمّا سوق بردى ففيه عدّة مغائر وكهوف، يذكر أنها كانت تسكنها الناس قديماً، حتى زعم بعض المؤرّخين أن هذه البلدة هي الّتي كانت فيها حادثة قتل هابيل لأخيه قابيل. ولعلّ هذا الزعم نشأ للمؤرّخ من أن هذا البلد واقع على مكان المدينة القديمة الّتي كانت تسمّى في عهد البطالسة أبيلة. ثمّ تمرّ السكّة الحديديّة من بعد هذه المحطة على دير قانون حتى تصل إلى عين الفيجة، وهي ذات مجرى جميل يصبّ في نهر بردى ومركزها الطبيعي بين المزارع والأشجار، ممّا يسرّ الأفئدة ويبهج الأنظار".
في "بعد عشرين سنة"، ينطلق علي الطنطاوي "من دمشق إلى الربوة فدمر، فالهامة، فالجديدة، فبسيمة"، ويتوقّف في الفيجة، "وفيها العين العظيمة التي تسقي دمشق ماء عذباً صفاه الله ونقّاه، فلم تصفّيه آلة ولا مصفاة"، ثم يتابع رحلته ويمرّ "على دير قانون وسوق وادي بردى وتلك القرى". بعدها يبلغ الراوي قرية عين أبي زاد، وهي "قرية صغيرة خاملة فقيرة، أهلوها على الفطرة النقيّة، لا يعرفون الحسد ولا الغش ولا السرقة"، "تطلّ على منظر من أعجب مناظر الدنيا، فهي على رأس جبل تقوم في أسفله الزبداني، ومن أمامها مدخل وادي بردى، وفيها المياه العذبة، والعيون الصافية، وفيها العنب والتين والتفاح الذي لا نظير له".
وعن أهل وادي بردى وتقاليدهم، يقول محمد كرد علي في "خطط دمشق": "وعادات السكان في القرى تتشابه وكذلك ألبستهم، وكلما بعدوا عما يقال له التمدن تمازجوا وتضامنوا، فما يزال المسلمون في بعض القرى وادي بردى إذا كان عند جارهم المسيحي فرح أو ترح يأتي المسلمون يخدمون ضيوفه، ويقدّمون له الهدايا ليبيّضوا وجهه أمام الواردين عليه وبالعكس. وهذا من أجمل العادات في التضامن بين أهل البلد الواحد. وعادات المسلمين في الساحل والداخل متشاكلة، وكلها مقتبس من عادات أهل دمشق".
تلك هي صورة وادي بردى في الماضي القريب. وهو الوادي الذي يحتضن نهر بردى ويحنو عليه، وهو الذي يزوّد دمشق بالماء العذب ويحمل إليها أفضل ما لديه من الثمار، ومنه أًنير أوّل مصباح كهربائي فيها، ومنه وصل الحرير إلى أنوالها، كما نقل محمود محمد علقم في كتابه " وادي بردى عبر العصور".
↧