تُرافق مسيرة مليشيات "الحشد الشعبي" منذ تأسيسها، انتهاكات وجرائم مختلفة في المناطق التي تصل إليها، وثّقت بعضها منظمات دولية ومحلية عراقية وأثارت بعضها استنكاراً دولياً، بينها جرائم قتل وتعذيب وخطف وابتزاز بدوافع طائفية. وتأسست هذه المليشيات في العراق، بناءً على فتوى أطلقها المرجع علي السيستاني، عُرفت حينها باسم "الجهاد الكفائي"، منتصف عام 2014 عقب اجتياح تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) مساحات واسعة من البلاد وسيطرته على مدن غرب وشمال العراق.
إلا أن تلك المليشيات ومنذ إقرار البرلمان العراقي نهاية العام الماضي القانون المثير للجدل القاضي بتحويلها إلى قوات رسمية تحت مظلة الحكومة، باتت في عملية توسع مستمرة في البلاد من خلال زيادة عديد مقاتليها واستبعاد من لا يتواجد منهم في ساحات القتال، فضلاً عن ارتفاع عدد معسكراتها ومقراتها، إضافة إلى ترسانتها العسكرية ونوع تدريباتها والجنسيات التي باتت تحتضنها، في صورة حوّلت الجيش العراقي الرسمي إلى قوة ثالثة تحل بعد مليشيات "الحشد" وقوات البشمركة الكردية في الإقليم الشمالي للعراق.
دولة المليشيات
يتحدث مسؤولون عراقيون في مكتب رئيس الوزراء حيدر العبادي لـ"العربي الجديد"، عما يصفونه بـ"السلطة شبه المستقلة" لتلك المليشيات، مؤكدين أن "رئيس الوزراء نفسه يتحاشى الدخول في مشكلة أو خلاف معها"، وباتت صيغة المخاطبة الحكومية لها "الطلب وليس الأمر كباقي القوات العراقية الرسمية". هذه التسريبات تؤكدها الوقائع على الأرض، بدءاً بحالات اعتقال أو إهانة أو طرد ضباط في الجيش العراقي خلال زيارات يجريها قادة تلك المليشيات للمدن والمناطق المختلفة، أو عمليات "السلت الناعم" (السلب بشكل خفي ومستمر) لمعدات الجيش وترسانته من مخازنه الرئيسة، من دون أن يجرؤ أي من مسؤولي الدفاع على الاعتراض، من بينها أسلحة ومعدات ثقيلة وصلت للعراق من دول غربية كمساعدات للجيش العراقي في "حربه ضد الإرهاب". وأخيراً معركة تلعفر بعد رفض المليشيات أن يتولى الجيش مهمة استعادة المدينة وإصرارها على البقاء في محيط مطار المدينة ومواصلة محاولات الاقتحام، على الرغم من تعهدات العبادي لنظيره التركي بن علي يلدريم الشهر الماضي في زيارته الأخيرة إلى بغداد.
وبالعودة إلى أرقام وبيانات تلك المليشيات، فإن أعدادها تراجعت من 123 ألفاً و900 عنصر إلى 86 ألفاً بعد استبعاد ما يُصطلح عليهم بـ"الفضائيين". و"الفضائيون" هم المسجلون على قوائم تلك المليشيات ويتقاضون مرتبات من دون أي دور لهم. واستُحدث المصطلح من قِبل العبادي عام 2015 خلال حديثه عن الجيش العراقي والفساد المستشري داخله. وبات جميع أفراد تلك المليشيات محميين بقانون ما يُعرف بـ"هيئة الحشد الشعبي" والذي شرّع عمل تلك المليشيات وربطها برئيس الوزراء القائد العام للقوات المسلحة.
ويتوزع أفراد تلك المليشيات على 61 مليشيا وفصيلاً مسلحاً، تبرز من بينها عشر مليشيات تُعتبر الأقوى والأكثر نفوذاً عسكرياً وسياسياً في العراق بسبب تبنّي إيران لها بشكل مباشر، وهي مليشيات "حزب الله" العراقي و"بدر" و"العصائب" و"النجباء" و"السلام" و"البدلاء" و"الإمام علي" و"الخراساني" و"أبو الفضل العباس" و"سرايا الجهاد"، تليها مليشيات أقل حجماً وتسليحاً مثل مليشيا "الإمام القائم" ومليشيا "سرايا الدفاع الشعبي" ومليشيا "كتائب الإمام الغائب" وغيرها.
ويتقاضى كل عنصر من تلك المليشيات نحو 700 دولار من الحكومة التي خصصت موازنة سنوية لها بلغت 3 تريليونات دينار ضمن موازنة العام 2017 (نحو 2 مليار و500 مليون دولار أميركي) كمرتبات فقط وتكاليف طعام، بينما تستمد تسليحها من الجيش العراقي، وهو ما أثار حفيظة الأكراد الذين ما زالوا يحاولون الحصول على موازنة لقوات البشمركة الكردية بينما ترفض بغداد ذلك، وتعتبر موازنتها من ضمن الموازنة العامة المخصصة للإقليم والبالغة 17 في المائة من مجمل موازنة البلاد الاتحادية.
كما تتلقى تلك المليشيات مكافآت وهبات بين فترة وأخرى من إيران تتفاوت في حجم المبلغ الواصل لكل عنصر منها إلا أنها تنال امتيازات أخرى كالدخول إلى إيران بلا تأشيرة والعلاج المجاني أيضاً لكل من يحمل هوية صادرة مما يعرف بـ"هيئة الحشد الشعبي".
معسكرات تثير المخاوف
وتمتلك مليشيات "الحشد الشعبي" تسعة معسكرات خاصة بها و286 موقعاً مؤقتاً ونحو 400 مكتب ومقر تمثيل في مدن العراق المختلفة عدا كردستان، كما تتشارك مع الجيش العراقي والشرطة الاتحادية بأربعين قاعدة عسكرية.
ويقول مسؤول عراقي بارز، طلب عدم ذكر اسمه، لـ"العربي الجديد"، إن "المليشيات تتوسع بشكل أفقي في البلاد وباتت تمتلك صواريخ يزيد مداها عن 80 كيلومتراً ودبابات روسية طراز تي 72 ومدرعات بي أم بي الأميركية ودروعاً وعربات نقل أميركية وروسية وأوروبية مختلفة غالبيتها كان من المفترض أن تذهب للجيش العراقي وليس إلى تلك المليشيات"، مشيراً إلى أنه "باتت للحشد كلمة عليا في البلاد ولا يمكن لوزير الدفاع ولا حتى رئيس الوزراء نفسه الاصطدام بها كونه سيصطدم بقوى أكبر منها"، في إشارة إلى إيران. ويضيف المسؤول العراقي في لقاء بمكتبه داخل المنطقة الخضراء في بغداد، أن "إيران زادت أخيراً دعمها للمليشيات وبات أغلب المدربين من ضباط وعناصر الحرس الثوري الإيراني، وكأنها في سباق مع الزمن".
في المقابل، فإن قوة العشائر المتمثلة بالمتطوعين المناهضين لتنظيم "داعش" تراجعت وفقاً لآخر تقارير من 21 ألف مقاتل إلى أقل من 15 ألف مقاتل في الأنبار ونينوى وصلاح الدين، بعد وقف الحكومة دعمها بالسلاح والمال، وهو ما دفع بالكثيرين إلى التطوع في أجهزة وزارة الداخلية في برنامج تأهيل المدن المحررة من "داعش" بصفة شرطي مرور أو شرطي نجدة وحتى سائق إسعاف بعد الفقر الذي أصابهم جراء إهمال الحكومة لهم.
وفي هذا السياق، يؤكد القيادي في مجلس العشائر المنتفضة ضد "داعش" الشيخ مطلب السرهيد، لـ"العربي الجديد"، أن "الحكومة أهملت العشائر بضغط إيراني ودعمت المليشيات"، معتبراً أن "السبب طائفي"، لافتاً إلى أن "الجيش العراقي تحوّل إلى القوة الثالثة في البلاد بعد مليشيات الحشد والبشمركة، وهذه كارثة كبيرة". ويقول إن "إيران تزيد بجنون دعمها لتلك المليشيات منذ نحو شهر وعلى نحو غير مسبوق، وقد يكون السبب هو التوتر الحالي مع الإدارة الأميركية الجديدة".
أغلب معسكرات تلك المليشيات في العراق لها أسماء تحمل دلالات ومعانٍ لا ترتبط بالعراق بل تتعدى ذلك إلى دول عربية أو إقليمية وبشكل يشير بوضوح إلى أن مهمة المقاتلين لن تكون داخل العراق فحسب بل قد تتعداها إلى خارجها تماماً كما هو الحال بالنسبة لتنظيم "داعش". ففي بابل مثلاً هناك معسكر البقيع، وفي النجف معسكر خاص يحوي على نحو 500 عنصر من المليشيات بينهم كويتيون وبحرينيون يُعرف باسم "أحرار المنامة"، بينما في واسط يوجد معسكر كبير قرب حي سكني في مدينة الكوت يُطلق عليه اسم "جنود الإمام علي خامنئي"، وآخر في مدينة بيجي في محافظة صلاح الدين يُعرف باسم "الشهيد حميد تقوي"، وهو أرفع جنرال إيراني قُتل في العراق عام 2015 في معارك تكريت. ويشارك ضباط إيرانيون في إعداد وتهيئة المسلحين سواء الجدد أو القدامى.
ويعلق ضابط في الجيش العراقي على تلك المعسكرات بالقول: "هم يأكلون اللحم كل يوم ولديهم كل شيء حتى الإنترنت، بينما جنود الجيش ينامون ببطون خاوية ويمضي أحدهم أسبوعاً ولا يجد في معسكره ماء استحمام". ويخشى أغلب الضباط العراقيين التحدث بأسمائهم الصريحة حول المليشيات وهو ما يعكس حجم سيطرتها على مفاصل مهمة في البلاد، وفقاً للضابط العراقي، الذي يؤكد لـ"العربي الجديد"، أن "الحديث عن حل هذه المليشيات بعد انتهاء صفحة داعش أو دمجها خطأ كبير، لأنه في حال دمج هذا العدد سيتحول الجيش العراقي إلى مليشيا كبيرة محكومة بالكامل من رجال الدين".
وأطلقت مليشيات "الحشد" على لسان عدد من قادتها تصريحات هددت فيها عدداً من الدول العربية، كالسعودية والبحرين، كما تعهدت بالانتقال بشكل رسمي للقتال في سورية بعد انتهاء معركة الموصل، وهددت بقصف مواقع تركية حدودية مع العراق. وقال أحمد الأسدي، المتحدث باسم "الحشد"، وهو أيضاً عضو في البرلمان، في مؤتمر صحافي الشهر الماضي، إنه "بعد تحرير الأراضي العراقية بالكامل من العصابات الإرهابية، فإن ملاحقتهم ستمتد إلى سورية بالتنسيق بين بغداد ودمشق"، وفقاً لقوله.
أما الشيخ فلاح الواسطي، أحد أعضاء مليشيا "أبو الفضل العباس"، وهي من المليشيات التي تقاتل أيضاً في سورية، فيعترف بأن "الحشد مؤسسة دينية عقائدية تقاتل من أجل الحفاظ على المكاسب المحققة بعد تحرير العراق من النظام الفاشي"، وفق لقوله. ويضيف في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن "القانون الذي أقره البرلمان جيد لكنه لم يضف شيئاً على الحشد الشعبي ولا توجد قوة سياسية يمكن أن ترغمنا على فعل شيء يخالف ما نؤمن به". ويتابع: "يمكن القول إنها القوة التي ستقضي على الاضطهاد الذي يتعرض له كل أتباع أهل البيت في أي بلد أو منطقة كانت".
المصدر: العربي الجديد - عثمان المختار
↧