اسمها مريم الدغيم، لكنها نسيت منذ متى نوديت بهذا الاسم، تقول أم محمد “ربما منذ وَلَدتُ ابني البكر محمد” فعادة أن تنادى المرأة المتزوجة باسمها مكروهة في عرف مجتمعها الريفي، حتى الأزواج يتآمرون مع ذلك العرف أيضا، أما عمرها فهو الوحيد الذي باتت تحسبه هنا.
ولدت في عام 1952،لكنها تتمنى لو أنها ولدت قبل ذلك بسنتين فقط، كل أنثى تتمنى لو كانت مواليدها بعدُ إلا هي تقول: “أتمنى لو أنني كنت أكبر بسنتين فقط” تعالوا أخبركم لماذا!.
أم محمد، أو مريم، هذا الاسم الذي استعادته أخيراً وصار يسبقه كلمة (السيدة) هي اللاجئة ذات 65 سنة، سنتان تفصلانها عن سن التقاعد هنا في ألمانيا، هذا يعني أنها لا تزال ملزمة بكل القوانين الخاصة بالعمل والتعليم كلاجئة.. تقول أم محمد: “عمري هذا في سوريا يجعل مني الجدة المحبوبة والمدللة نوعا ما، إن كان الأولاد مرضييين وكنت كريمة مع الأحفاد، فالسكاكر في جيوب الجدات وحتى النقود غاية كل حفيد، وهذا يكفي لجعلي الجدة المفضلة عن الجدة الأخرى ” هنا يختلف الأمر بشكل كبير هي الجدة التي تذهب لـ(لجوب سنتر)، وتنتظر صندوق البريد يومياً بعد ما كانت تنتظر جابي الكهرباء والمياه، أوحتى خطيب الجامع الذي يتحول فجأة لناقل للأخبار أو مناشد للناس لدفع الفواتير، أو حضور الاجتماعات كما تقول.
وتقول أيضاً “لا أفهم على الناس هنا ويبدو أنني لن أفهم، أذهب وحيدة فالقانون هنا لا يسمح أن يذهب أبنائي عني، لا تكرماً ولا مراعاة لعمري، والمترجم الذي استعين به مغربي وهذا لوحده يحتاج ترجمة فلم أتعلم اللهجة المغربية مسبقاً، لا أعلم لكن اسمعهم دائما يقولون هنا تعبيراً عن غضبهم (شايسي) وأنا الآن غاضبة”.
تقضي أم محمد كل حوائجها لوحدها، تشتري وتصعد الباصات وتقطع التذاكر أيضا لوحدها، تقول: “لايهمني سوى معرفة الأرقام لهذه الأمور وأصابعي معي وتعينني جيداً”.
تحافظ على لباسها الشعبي الريفي ولا يهمها كيف ينظر لها الألمان، يهمها فقط أن تكون مرتاحة، والقانون يسمح للأولاد فوق سن الـ 18 أن يستقلوا عن أهلهم واستقل أبناؤها فعلاً، تقول أم محمد عن ذلك: “الكنة غير مضطرة أن تسكنني معها وأتفهم ذلك ،لأني صرت ألمانية ولم تعد وسوسات الحماوات العربيات تعنيني”، ما ليس مسموحاً هنا أن يسكن الأطفال القصّر بعيداً عمن يرعاهم من ذويهم وإن حدث ذلك فسيشرف عليهم كفيل أجنبي، ولم تسمح بذلك مع أولاد ابنها الذين جاؤوا معها بدون أبويهم تقول: “لم أسمع بهذه الكلمة من قبل (قاصر) كل من كان بعمرهم كنت أطلق عليه لقب (عجي)، والعجي بنظري هو من يحتاج لأبويه دائما وربما جدته”، هي الجدة الصغيرة، التي تستيقظ مع أحفادها لتجهز السندويشات لهم ولها، فلا وقت للفطور هنا فزحمة السير وبعد المسافات تجعلنا نذهب متأخرين مهما استيقظنا مبكرين، لهم سندويشاتهم ولي سندويشتي، لهم حقيبتهم ولي حقيبتي، هم فقد أنهوا واجباتهم المدرسية أما أنا فلا، كما تقول.
تستعيد ذكرياتها يومياً فتضحك أحياناً وتبكي لانقلاب الأدوار، فهي التي كانت تلاحق أطفالها ليدرسوا، واليوم هم يلاحقونها لتنهي واجباتها التي لا تفهم منها حرفاً، تقول: “يحاول أولادي أن يقربوا لي لفظ الكلمات ويأتون لي بكلمات مشابهة لأسماء أحفادي أو المناطق أو الأشياء، فالرقم واحد يلفظ هنا آينس يقول لي حفيدي تذكري اسم غيث، وابدلي الحرف الأول ألفاً، يبدو أن حفيدي نسي أني لا أعرف الحروف العربية أيضاً، كيف سأعرف الحرف الأول من الأخير، تقول لي ابنتي، لا يوجد كلمة ألمانية إلا ويوجد لها لفظ مقارب في العربية، تكذب هي أعلم ذلك، العربية لغة لا شبيه لها في الدنيا”.
لا تعلم، أم محمد، كيف سيكون موقف جاراتها في القرية لو رأينها تحمل حقيبتها المدرسية على ظهرها أو كتفها أحيانا، هل سيضحكن أم يبكين! سيضحكن ويقلن (بعد الكبرة جبة حمرة) وسيبكين عمرهن الذي ضاع دون أن يتعلمن،كما بكته هي هنا، تقول وعلى وجهها تبدو ملامح القهر “لو تعلمت العربية كتابة حتماً كان الأمر أسهل، لو تعلمتها ربما لم أكن هنا أيضاً، كنت سأعلم النساء كيف أن الثورة كانت ضرورية منذ كنت طفلة”.
هنا أدركت أم محمد أننا كنا بحاجة لثورات كثيرة، اجتماعياً وأخلاقياً ومعرفياً، ثورة على كل شيء، لو فعلتها حقاً منذ الصغر وساعدها الجميع لما كانت هنا أجزم.
في المدرسة دخلت المستوى الأول الذي يعلمون به الحروف أولاً، الحروف الألمانية طبعاً، لكن كيف لعقل مرّ بكل تلك الخيبات والكوارث والأحداث والثورات أن يفهم أن حرف Aلا يلفظ آآآآه تخرج من الصدر والقلب ومن الروح، وكيف لعقل مرّ بكل ما سبق أن يدرك أن الأحرف ليست سوى أنات وصفعات يصفعنها فتستيقظ على وجودها هنا، لتبكي كل حرف سمعته في قريتها الصغيرة كفروما بريف معرة النعمان الغربي،كل كلمة لم تكن تفهم معناها مما كان يقرأه صغارها وأحفادها.
كيف لا تذكر الأرنب الذي قفز وعمهم منصور النجار، وخالهم سليمان العيسى، كيف لا تتذكر لعبتهم مها، رشا وبطتها، وتتذكر رفاقهم باسم ورباب، لا رباب هنا ولا باسم لاعيسى ولا موسى، هنا كاتيا وكاترين ومارتن، لطفاء لكن لطفهم عابر، عابر ككل الذكريات التي تذكرها في الكورس، فتصفعها قهقهات زملائها الكبار وهم يضحكون عبثها في لفظ الأسماء ونطق الأحرف، وفهم معانيها، فترد الصفعة قائلة “ابوكن على أبو يلي جابني لهون”.
مفيدة عنكير – الفيحاء نت
↧