نكبر شيئاً فشيئاً فتشتعل مشاعرنا ونحاول إشباعها من خلال صورة واحدة، ألا وهي صورة الفارس ذي الحصان الأبيض.. أو البنت الجميلة ذات الضفائر.. أو هكذا تقوم بإيهامنا الأفلام والمسلسلات.. التي تختزل كافة أشكال الحب في الفستان الأبيض والطرْحة ومشهد محاط بقلوب فَرِحة.. فيتبلور إدراكنا مبكراً حول هذا الشق الأوحد من الحب ويصبح شغلنا الشاغل الوصول إلى هذا المشهد قبل الأوان.
منذ نعومة أظافرنا نختلط بالآخر، تجمعنا بهم مشاعر فطرية نبيلة من المشاركة في اللعب والشعور بالطمأنينة. وقد يهوّل الآباء المتشددون من هذا المشهد البريء ليجعلوه مُحرّماً حتى ننظر للآخر على أنه وحش كاسر أو ممنوع، فتزيد رغبتنا في استكشافه. أتذكر هذه المحطة الهامة في حياتي والصعبة في حياة معظم الآباء والأمهات، مرحلة الدخول في عداد النِساء أو التي تُدعى “المراهقة”.. ما بين سن الـ13- 19 كنت في مدرسة إنجيلية مُختلطة وكانت تعجّ بقصص الحب و”الصحوبية”.
أتذكر كم مررت بهذه المرحلة مرور الكرام، أو كما تقول أمي “كالبلسم”، ليس لأنني ذلك الكائن الفضائي الذي لم يتوق للوصول إلى مشهد الفرحة السالف ذكره أو لم تداعبه صورة الارتباط بتوأم روحه، ولكن ربما لأنني كنت دائما أسمع أمي تتحدث عن هشاشة قلب البنت وأنه مثل الجوهرة المكنونة، وأن تعلّق قلبها بأحد قبل الأوان لا يعنى غير مغامرة خاسرة تخلّف وراءها جراحا غائرة تماما كأنك قمت بقطف ثمرة قبل نضوجها.
وبالمثل، كان أبي دائماً ما يخاطب زملائي في المدرسة على أنهم إخوة لي، أتذكّر يوماً أنه جاء إلى المدرسة وقال لأحدهم بنبرة كلها حنان “خلّي بالك منها هي أختك”. وكانت أمي منذ صغري تسرد لي قصصا عن مراهقتها وكيف كان ينظر إليها أنها نجمة عالية صعبة المنال، كم كانت تُشعرني هذه الحكايات بالفخر والعزة واحترام الذات، حتى تمنيت أن أسير على دربها.. درب النجوم العاليات، كنت أرى منظر الفتاة المسكينة عندما تتلاقى بمحبوبها وكيف يتلخبط كيانها، وكنت أرى دموع أخريات من ألم الفراق، كم كنت أشعر بالشفقة تجاههن، وأحمد الله على أني لم أدلُ بدلوي في تلك الترّهات المضيعة للوقت والمليئة بالآهات.
أتذكّر حين كنت في الفصل الثالث الإعدادي ووجدت أحدهم وقد أطلق على نفسه “مُعجب ولهان” قد وضع جواباً غرامياً هبط عليّ كالصاعقة في دُرج مكتبي، طالباً مني أن أعيره اهتماماً وأردّ على رسائله… كنت أقرأ الجواب وقد ملأني الخزي كيف تجرّأ أن يقترب مني عبر ورقات تحمل ترهات المراهقين التي حذّرتني منها أمي.
ذهبت مسرعة إليها وقلبي ينبض من شدة الخوف الممزوج بالخجل، قامت بكل حكمة بالتحدّث إليه وبمثل نبرة أبي الناصحة لقّنته نفس الدرس، درسا أظن أنه نُقش في قلبه وكيانه، أنني دُرة وأمانة يتوجّب عليه صيانتها، وأن الرجولة تُحتم عليه المحافظة على البنات كأنه حارسهم الأمين. كم كان ذلك له مفعول ساحر في نفوس من دخلوا في عداد الرجال مُسرعين، موهومين بمشهد الورود والقلوب والدباديب، أظنني تخطيت هذه المرحلة بأقل الخسائر، لذا دعوني أهمس في آذان الآباء والأمهات حتى ننجو بأبنائنا من هذه المحطة الهامة فعلينا:
– أن نخاطب عقول أبنائنا ونشرح لهم معنى الحب الشامل لكل معاني الخير وعدم تحجيمه في العلاقة بآخر.
– نشرح لهم أضرار الدخول في علاقات مُبكره وعواقبها.
– نُفهمهم الفرق بين الحب الناضج الواعي والحب المراهق اللامع.
– أن نضع الكرة في ملعبهم فدائما الممنوع مرغوب.
– وأنه لا شيء يشين مشاعرنا، ولكن التنفيس عنها في غير أوان نضوجها يحوّل رحلة الحب الجميلة إلى دموع وآهات.
المصدر: العربي الجديد – دينا عريبي