لم يعد يحتاج السوري أي مبرر ليهجر وطنه، بل على العكس تماما، بات السؤال لماذا تبقى في سوريا!؟ وحدهم هم الأطباء السوريون القادرون على الإجابة عن هذا السؤال. هي إنسانيتهم وحبهم لمهنتهم ووطنهم ما يبقهم رغم كل شيء، فكنوز الأرض لا تعادل لديهم إعادة البسمة لطفل في زمن التخاذل.
وللمرة الأولى سأكتب بعاطفتي وسأستعيد ذكرياتي كي أعود لغرفة عملياته التي لا تُغلق، وغرفة استراحته التي لا تتجاوز الأمتار الأربعة، والتي يقضي فيها ساعات استراحته الأربع. لا يمكن أن أنسى نظرات الأمهات له ليحمل لهن الأخبار السارة عن ابنٍ وأخٍ وزوج مصاب، إنه الطبيب (جلال الزعبي)، طبيب الأوعية المتميز في الجنوب السوري.
الطبيب المعتقل
كانت البداية مع انطلاق الثورة السورية عام 2011، حيث عمل الطبيب في مستشفى (فاتح حلاوة) في منطقة (كفر بطنا) في غوطة دمشق الشرقية، وفي نهاية العام 2012 اعتقل الطبيب من قبل فرع فلسطين.
وقال الطبيب (جلال الزعبي) لـ "كلنا شركاء"، إن اعتقاله استمر لشهر كامل، وقد خرج بموجب عفو في تلك الفترة، وتوجه بعدها إلى مدينة درعا، وقرر الاعتكاف في منزله، وبقي فيه ثلاثة أشهر، بعدها حدثت مجزرة الكاشف المشهورة، ليُعتقل من جديد في معتقل (حميدة الطاهر) في مدينة درعا.
وعقب اعتقاله لأيام خرج وقرر التوجه نحو المناطق المحررة، ولكن الحواجز الأمنية كانت تقف عائقاً في وجهه. وقال الطبيب "الزعبي" عن تلك المرحلة: "لا يمكن أن أنسى فضل زميلي الذي أخرجني من مناطق النظام نحو المناطق المحررة في درعا، وهو من الطائفة الشيعية، وكان عبورنا على الحواجز الأمنية ميسراً ولم يتم التدقيق".
غرفة عمليات أوعية
وقال الزعبي إنه وصل إلى ريف درعا الشرقي في العام 2013، واجتمع للمرة الأولى مع أطباء ريف درعا الشرقي، وهم: (الطبيب تيسير الزعبي ـ الطبيب محمد العبد الله ـ الطبيب أحمد العبد الله) الذين شجعوه على بدء العمل لفتح غرفة عمليات أوعية في المنطقة الشرقية تخدم الجنوب السوري.
وبالفعل نجحوا جميعاً في افتتاح غرفة العمليات بإمكانيات بسيطة جدا، تكاد لا تذكر، وأدوات جراحة عامة يتم جلبها من باقي النقاط الطبية، ويتم تجميع الخيوط لجراحة الأوعية، وخلال تلك الفترة أجروا أكثر من 250 عمل جراحي وعائي، بنسبة بتر تكاد تكون معدومة، بدعم يكاد لا يذكر من المنظمات الطبية.
ضرورة استجلاب الدعم
"أبو علي الزريقات"، أحد الممرضين في ريف درعا الشرقي، قال لـ "كلنا شركاء"، إن الكادر الطبي بعد انسداد الأفق أمامهم نهاية العام 2013 طالبوا الطبيب "الزعبي" بالتوجه إلى الأردن لجلب الدعم الطبي لضمان استمرارية المشروع الذي كان يشكل بارقة أمل لمئات المصابين.
وأضاف أنه بالفعل نهاية العام 2013 دخل الطبيب إلى الأردن، مشيراً إلى أن موضوع استجلاب الدعم لم يكن أمراً سهلا، بسبب الروتين والبيروقراطية في المنظمات الطبية، مما أجبر الطبيب على البقاء في الأردن لمدة عام كامل، خلالها لم يتوقف الطبيب عن العمل، فأجرى مجموعة من العمليات الجراحية مع أطباء أردنيين لمصابين سوريين كانوا يدخلون بشكل يومي من الأراضي السورية.
وقال الطبيب "الزعبي" إنه عقب حصوله على الدعم من منظمة (الكامب أنامور) الألمانية، قرر العودة إلى سوريا، وكان ذلك بدعم من الطبيب (معاوية مراد) التي تخطى مجموعة من الأمور البيروقراطية لتسريع المشروع، بالإضافة لمساعدة (قاسم الزعبي)، ليتوج العمل بإنشاء أول مركز لجراحة الأوعية في الجنوب السوري.
مركز جراحة الأوعية
وأشار الممرض "الزريقات" إلى أن المرحلة الجديدة من العمل شكلت نقلة نوعية، حيث قام المركز خلال الفترة الممدة من مطلع عام 2015 وحتى مطلع شهر شباط/فبراير 2016، بأكثر من 1500 عمل جراحي وعائي مترافق أو غير مترافق مع إصابات عصبية أو عظمية أو إصابات في البطن.
وأوضح الطبيب "الزعبي" أن نسبة البتر خلال تلك الأعمال لم تتجاوز 2 في المئة، والسبب يعود لدعم منظمة (الكامب أنامور) بالإضافة للكادر التمريضي، وأطباء الجراحة العظمية (الطبيب محمد المقداد ـ الطبيب سهيل ـ الطبيب احمد العبد الله) الذين كانوا يلبون النداء في أي وقت.
وأضاف بأن النجاح لا يعود له أو لخبرته فقط، بل للكادر الذي كان يمضي ليله واقفاً داخل غرفة العمليات، فمدة العملية كانت تتراوح ما بين ست وعشر ساعات.
الخروج من سوريا من جديد
وقال الممرض "الزريقات" إنه مع بداية شهر شباط/فبراير من عام 2016 بدأت أعراض داء (السكري) تظهر على الطبيب "الزعبي" واعتلال الأعصاب السكري المحيطي، فتوجه على إثرها الطبيب للمملكة الأردنية للعلاج، وعقب أربعة أشهر من العلاج توجه الطبيب الزعبي مع منظمتي (الكامب أنامور والورد فيجن) إلى مخيم الرقبان ليكون المشرف على الملف الطبي في المخيم.
مناشدات الجرحى تعيد الطبيب
وعقب فشله في إنشاء عيادات تخدم سكان مخيم الرقبان، شعر الطبيب "الزعبي" أن أي شخص يمكن أن يقوم بدوره هناك، "ولكن لا يستطيع أحد أن يحل محله في الجنوب السوري إلا صاحب الخبرة"، على حد تعبيره.
وأكد "الزعبي" أن المناشدات من قبل الجرحى المصابين والذين هم بحاجة لأعمال جراحية، ومناشدات الأهالي، كان لها أثر كبير في اتخاذه قرار العودة إلى سوريا مطلع شهر شباط/فبراير الجاري.
وأشار إلى أنه مشاهدته للمركز الذي أنشأه مع كادره يحترق أمام عينيه كان حاسماً في اتخاذه قرار العودة والعمل على الأرض من جديد، إضافة إلى عودة الجبهات إلى الاشتعال في المنطقة الجنوبية.
وأوضح الممرض "الزريقات" أن الطبيب "جلال الزعبي" اختار العودة إلى الداخل السوري تاركاً وراء ظهره عروضاً ماليةً ضخمةً مقارنةً بما يتقاضاه في الداخل السوري، لكنه فضل أن يكمل مسيرته وأن يكون بين أهله رغم حالته الصحية الصعبة، على حد تعبيره.
صدمة العودة
وصُدم الطبيب "الزعبي" عندما عاد إلى المركز ووجده خالياً من الأدوية بشكل تام، وخالياً من السيرومات والمغذيات الوريدية، ومواد التخدير وخيطان جراحة الأوعية والوصلات وكل ما يلزم من مواد استهلاكية في عمليات جراحة الأوعية الدموية، بالإضافة لوجود بعض الأجهزة المعطلة. وقال: "فشعرت عندها أنني عدت من الصفر، وعدنا إلى العمل كما كنا عام 2013".
وأشار "الزعبي" إلى أنه يتواصل الآن مع كافة المنظمات الطبية من أجل تقديم الدعم للمركز، لتقديم الخدمات الطبية لذوي الإصابات الوعائية من جديد، مضيفاً "نحن نتمنى من المنظمات الطبية المختصة ولا سيما (الورد فيجن ـ الكامب أنامور ـ السامز ـ IRC) أن تقديم الدعم المطلوب لكي نتمكن من الوقوف من جديد".
الساعات الذهبية
وختم "الزعبي" حديثه قائلاً: "طالبني العديد من الناشطين في العام 2016 البقاء في الأردن وإجراء العمليات من هناك، ولكن ما كان يخفى على الكثيرين أن الوقت الذهبي لإنقاذ الجريح هي الساعات الست الأولى بعد الإصابة، فإذا نُقل الجريح من الأراضي السورية إلى الشريط الحدودي مع الأردن، وبعدها انتظر ليتم السماح له بالدخول، ومن ثم تحويله من منظمة أطباء بلا حدود إلى المستشفى المناسب، نكون قد فقدنا الساعات الست الذهبية، وتصبح نسبة بتر العضو المصاب عالية جدا، وهذا ما دفعني للعودة، فالعمل في الأردن ممكن أن يكون ناجحاً لكن نسبة النجاح داخل الأراضي السورية أكبر.
مضر الزعبي: كلنا شركاء
↧